– لقد ميز الله -سبحانه وتعالى- رسوله – صلى الله عليه وسلم – عن غيره من الأنبياء والرسل كونه، لم يخاطبه باسمه في القرآن العظيم، فلم يرد ولا مرة واحدة (يا محمد)، مع أنه -سبحانه- خاطب جميع الأنبياء بأسمائهم: {يا نوح إنه ليس من أهلك}، {يا إبراهيم أعرض عن هذا}، {يا موسى  إني اصطفيتك على الناس}، {يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي}، أما الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم – خاطبه بـ{يا أيها النبي} ثلاث عشرة مرة، و{يا أيها الرسول} مرتين.

– ملاحظة جميلة، مع أني سمعتها من قبل ولكن ليس بهذا التفصيل.

– وافتتحت ثلاث سور من القرآن بـ{يا أيها النبي} سورة الأحزاب، وسورة الطلاق، وسورة التحريم.

كنت وصاحبي في طريقنا لعزاء جارنا (بوبدر) بوفاة والده، مع أن صاحبي كان مترددا في الذهاب، أشار علي أن يتولى سائقه القيادة حتى لا نضيع وقتنا في إيجاد موقف مناسب.

– في سورة التحريم عتاب من الله -عز وجل- لرسوله – صلى الله عليه وسلم -، يضاف إلى صيغ العتاب والتنبيه والإرشاد والتربية التي أنزلها الله -عز وجل- على رسوله – صلى الله عليه وسلم -، يقول -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (التحريم:1)، كثير من الذين في قلوبهم مرض، يستشهدون بهذه الآية للطعن في أم المؤمنين حفصة وعائشة -رضي الله عنهما- والحقيقة أنهم بذلك يطعنون في الرسول – صلى الله عليه وسلم -، وهم في فعلهم هذا يقلدون الحاقدين، ممن أولوا الآيات على غير تأويلها، وتبعوا سبيل المنافقين في الطعن بالصحابة وأمهات المؤمنين، ولو صفت قلوبهم لوجدوا في هذه الآية ما يزيدهم إيمانا، ففي تفسير هذه الآية -وهي مدنية وتسمى سورة النبي- افتتاح السورة بخطاب النبي – صلى الله عليه وسلم – بالنداء تنبيه على أن ما سيذكر بعده مما يهتم به النبي – صلى الله عليه وسلم – والأمة، ولأن سبب النزول كان من علائقه.

     والاستفهام في قوله: لم تحرم مستعمل في معنى النفي، أي لا يوجد ما يدعو إلى أن تحرم على نفسك ما أحل الله لك؛ ذلك أنه لما التزم عدم العود إلى ما صدر منه التزاما بيمين أو من دون يمين أراد الامتناع منه في المستقبل، قاصدا بذلك تطمين أزواجه اللائي تمالأن عليه لفرط غيرتهن، عن ابن عباس، قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}، إلى قوله: {وهو العليم الحكيم}، قال: كانت حفصة وعائشة متحابتين، وكانتا زوجتي النبي – صلى الله عليه وسلم -، فذهبت حفصة إلى أبيها، فتحدثت عنده، فأرسل النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى جاريته، فظلت معه في بيت حفصة، وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة، فرجعت حفصة، فوجدتهما في بيتها، فجعلت تنتظر خروجها، وغارت غيرة شديدة، فأخرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جاريته، ودخلت حفصة فقالت: قد رأيت من كان عندك،  والله لقد سؤتني، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «والله لأرضينك فإني مسر إليك سرا فاحفظيه»، قالت: ما هو؟ قال: «إني أشهدك أن سريتي هذه على حرام رضا لك»، كانت حفصة وعائشة تظاهران على نساء النبي – صلى الله عليه وسلم -، فانطلقت حفصة إلى عائشة، فأسرّت إليها أن أبشري أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد حرم عليه فتاته، فلما أخبرت بسر النبي – صلى الله عليه وسلم – أظهر الله -عز وجل- النبي – صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله على رسوله لما تظاهرتا عليه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ}، إلى قوله: {وهو العلي الحكيم}.

     والصواب من القول في ذلك أن يقال: كان الذي حرمه النبي – صلى الله عليه وسلم – علي نفسه شيئا كان الله قد أحله له، وجائز أن يكون ذلك هو جاريته، وجائز أن يكون شرابا من الأشربة، وجائز أن يكون غير ذلك، غير أنه عندما حرم شيئا كان له حلالا عاتبه الله على تحريمه على نفسه ما كان له قد أحله، وبين له تحلة يمينه في يمين كان حلف بها مع تحريمه ما حرّم على نفسه.

وليس معنى التحريم هنا نسبة الفعل إلى كونه حراما كما قال -تعالى-: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف:32)، وقوله: {يحلونه عاما ويحرمونه عاما} (التوبة:37).

ولا يخطر ببال أحد أن يتوهم منك أنك غيرت إباحته حراما على الناس أو عليك.

وفي هذه السورة جاء العتاب لطيفا رقيقا في غاية الترفق فقد افتتح العتاب بندائه بوصف النبوة، وفيه من التشريف والتكريم والتطمين على أن ما يذكر بعد لا يؤثر على مقامه العالي فهو النبي المكرم.

     ولو بدأه بالعتاب فقال: {لم تحرم}، لفرق قلبه – صلى الله عليه وسلم -، ولترك أثرا كبيرا، ولو جاء الترفق بعد ذلك، وهذا أسلوب الحبيب الذي لا يريد إلحاق أي هزة عاطفية في قلب حبيبه مهما كانت الهزة مغلفة بالأساليب الرفيقة الرقيقة ثم يأتي العتاب في صيغة سؤال تلطف: {ِلمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك}، ومن الأمور المخففة لآثار العتاب ذكر السبب الدافع لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى هذا التحريم: {ِتَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ}.