– لا يمكن لباحث في أسلوب عتاب الله لرسوله – صلى الله عليه وسلم – ألا يتطرق إلى هذه الآية من سورة (عبس)، وتسمى سورة (السفرة) لقوله -سبحانه- {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ} وهي مكية نزلت بعد سورة (النجم) وقبل سورة (القدر)، وترتيب نزولها الرابعة والعشرون وترتيبها في المصحف (الثمانون).

– معلومات جيدة عن السورة ولاسيما اسمها الثاني (السفرة) فأول مرة أسمعه.

صاحبي بدأ يرتاد مراكز الأترجة لتحفيظ القرآن الكريم، رغم أنه جاوز الخمسين، وتقاعد عن العمل، إلا أنه قرر أن يبدأ بحفظ القرآن كاملا، (عمل ينفعه بعد الموت)، كنا في طريقنا لأداء العمرة برا، وثالثا في المقعد الخلفي، تكفل بتقديم الأشربة والأطعمة خلال الرحلة.

– دعني أقرأ لكما شيئا مما ورد في تفسير هذه الآيات التي نحفظها جميعا.

كان صاحبي هو الذي يتولى القيادة، أخذت أبحث في هاتفي أجمع من تفاسير مختلفة.

قوله -تعالى- عبس أي كلح بوجهه، والعبوس بضم العين: تقطيب الوجه وإظهار الغضب، ويقال: رجل عبوس بفتح العين، أي متقطب، قال -تعالى-: {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} (الإنسان:10).

وتولى: أي أعرض بوجهه لمجيء الأعمى إليه.

افتتاح هذه السورة بفعلين متحملين لضمير لا معاد له في الكلام تشويق لما سيورد بعدهما، والفعلان يشعران بأن المحكي حادث عظيم، فأما الضمائر فيبين إبهامها قوله: {فأنت له تصدى} (عبس:6).

روى أهل التفسير أجمع أن قوما من أشراف قريش كانوا عند النبي – صلى الله عليه وسلم – وقد طمع في إسلامهم، فأقبل عبدالله بن أم مكتوم، فكره رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يقطع عبدالله عليه كلامه، فأعرض عنه.

وفي الترمذي عن عائشة، قالت: نزلت عبس وتولى في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فجعل، يقول: يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعرض عنه، ويقبل على الآخر، ويقول: «أترى بما أقول بأسا»، فيقول: لا، ففي هذا نزلت، والآية عتاب من الله لنبيه – صلى الله عليه وسلم – في إعراضه وتوليه عن عبدالله ابن أم مكتوم. ويقال: عمرو بن أم مكتوم، واسم أم مكتوم عاتكة بنت عامر بن مخزوم، وعمرو هذا: هو ابن قيس بن زائدة بن الأصم، وهو ابن خال خديجة -رضي الله عنها-، وكان قد تشاغل عنه برجل من عظماء المشركين.

وعبر عن ابن أم مكتوم بالأعمى ترقيقا للنبي – صلى الله عليه وسلم – ليكون العتاب ملحوظا فيه أنه لما كان صاحب ضرارة فهو أجدر بالعناية به؛ لأن مثله يكون سريعا إلى انكسار خاطره.

ولما كان صدور ذلك من الله لنبيه – صلى الله عليه وسلم – لم يشأ الله أن يفاتحه بما يتبادر منه أنه المقصود بالكلام، فوجهه إليه على أسلوب الغيبة ليكون أول ما يقرع سمعه باعثا على أن يترقب المعني من ضمير الغائب فلا يفاجئه العتاب، وهذا تلطف من الله برسوله – صلى الله عليه وسلم – ليقع العتاب في نفسه مدرجا وذلك أهون وقعا، ونظير هذا قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} (التوبة:43).

وفي قوله -تعالى-: {فتنفعه الذكرى} (اكتفاء عن أن يقول: فينفعه التزكي وتنفعه الذكرى لظهور أن كليهما نفع له.

والذكرى: هو القرآن؛ لأنه يذكر الناس بما يغفلون عنه، قال -تعالى-: {وما هو إلا ذكر للعالمين} (القلم:52)، فقد كان فيما سأل عنه ابن أم مكتوم آيات من القرآن.

قال الثوري: فكان النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم يبسط له رداءه ويقول: «مرحبا بمن عاتبني فيه ربي»، ويقول: «هل من حاجة»؟ وكان النبي -صلى الله عليه وسلم – يحبه ويكرمه وقد استخلفه على المدينة في خروجه إلى الغزوات ثلاث عشرة مرة، وكان مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم هو وبلال بن رباح.

قال ابن زيد: إنما عبس النبي – صلى الله عليه وسلم – لابن مكتوم وأعرض عنه، لأنه أشار إلى الذي كان يقوده أن يكفه، فدفعه ابن أم مكتوم، وأبى إلا أن يكلم النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى يعلمه، فكان في هذا نوع جفاء منه، ومع هذا أنزل الله في حقه على نبيه – صلى الله عليه وسلم -: عبس وتولى بلفظ الإخبار عن الغائب، تعظيما له ولم يقل: عبست وتوليت، ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب تأنيسا له فقال: وما يدريك أي يعلمك لعله يعني ابن أم مكتوم يزَّكى بما استدعى منك تعليمه إياه من القرآن والدين، بأن يزداد طهارة في دينه، وزوال ظلمة الجهل عنه.

نظير هذه الآية في العتاب قوله -تعالى- في سورة الأنعام: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} (الأنعام:52)، وكذلك قوله في سورة الكهف: {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الكهف:28).

أقوله: كلا ردع له – صلى الله عليه وسلم – عما عوتب عليه، لا تفعل بعد هذا الواقع منك مثله من الإعراض عن الفقير، والتصدي للغني والتشاغل به، مع كونه ليس ممن يتزكى عن إرشاد من جاءك من أهل التزكي والقبول للموعظة، وهذا الواقع من النبي – صلى الله عليه وسلم – هو من باب ترك الأولى، فأرشده الله -سبحانه- إلى ما هو الأولى به، إنها تذكرة أي: أن هذه الآيات أو السورة موعظة، حقها أن تتعظ بها وتتقبلها، وتعمل بموجبها ويعمل بها كل أمتك، فمن شاء ذكره أي: فمن رغب فيها اتعظ بها وحفظها وعمل بموجبها، ومن رغب عنها كما فعله من استغنى فلا حاجة إلى الاهتمام بأمره