– هذه الآية أتت في سورة الحجر وتمامها: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}، وفي سورة طه يقول -سبحانه-: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}.

في هاتين الآيتين إرشاد للأمة من خلال رسولها – صلى الله عليه وسلم – إلى عدم الاغترار بما عند الكفار من زينة الدنيا واليقين بأن الله -تعالى- أعطى المؤمنين ما هو أعظم من ذلك في الدنيا والآخرة، فالآية الأولى يسبقها قول الله -تعالى-: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (الحجر:87). ويسبقها: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} (طه:130).

وإليكم ما جاء في تفسير هاتين الآيتين:

كنت مستمعا في درس ألقاه شيخ زائر من الجامعة الإسلامية في إحدى دواوين منطقتنا، تحت عنوان (الترتيب الإلهي للنعم).

– أكمل الشيخ حديثه: معنى الآية: لا تجعل يا محمد لزهرة الدنيا وزنا؛ فإنه لا بقاء لها. {ولا تمدن} أبلغ من لا تنظرن، والمد: أصله الزيادة. وأطلق على بسط الجسم وتطويله، يقال: مد يده إلى كذا، ومد رجله في الأرض. ثم استعير للزيادة من شيء، ومنه مدد الجيش، ومد البحر، والمد في العمر. وتلك إطلاقات شائعة صارت حقيقة. واستعير المد هنا إلى التحديق بالنظر والطموح به تشبيها له بمد اليد للمتناول، لأن المنهي عنه نظر الإعجاب مما هم فيه من حسن الحال في رفاهية عيشهم مع كفرهم، أي فإن ما أوتيته أعظم من ذلك فلو كانوا بمحل العناية لاتبعوا ما آتيناك ولكنهم رضوا بالمتاع العاجل فليسوا ممن يعجب حالهم.

ثم أمر نبيه بالاحتقار لشأنهم، والصبر على أقوالهم، والإعراض عن أموالهم وما في أيديهم من الدنيا، إذ ذلك منصرم عنهم صائر إلى خزي.

وروي عنه -عليه السلام- أنه مر بإبل بني المصطلق وقد عبست في أبوالها (وأبعارها) من السمن فتقنع بثوبه ثم مضى، لقوله -عز وجل-: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ} الآية، ثم سلاه فقال: {ورزق ربك خير وأبقى} أي ثواب الله على الصبر وقلة المبالاة بالدنيا أولى، لأنه يبقى والدنيا تفنى، وقيل: يعني بهذا الرزق ما يفتح الله على المؤمنين من البلاد والغنائم.

ويروى أن عروة بن الزبير – رضي الله عنه – كان إذا رأى شيئا من أخبار السلاطين وأحوالهم بادر إلى منزله فدخله، وهو يقرأ: {ولا تمدن عينيك}، الآية إلى قوله: {وأبقى}، ثم ينادي بالصلاة: الصلاة يرحمكم الله، والمقصود من هذا الخطاب ابتداء هو النبي – صلى الله عليه وسلم -، ويشمل أهله والمؤمنين لأن المعلل به هذه الجملة مشترك في حكمه جميع المسلمين.

والآية في سورة الحجر: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)}.

– فيه مسألتان: الأولى قوله -تعالى-: {لا تمدن عينيك} المعنى: قد أغنيتك بالقرآن عما في أيدي الناس.

– يقال: إنه وافى سبع قوافل من البصرة وأذرعات ليهود قريظة والنضير في يوم واحد، فيها البُر والطيب والجوهر وأمتعة البحر، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا وبها وأنفقناها في سبيل الله؛ فأنزل الله -تعالى-: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني}، أي فهي خير لكم من القوافل السبع، فلا تمدن أعينكم إليها. وإلى هذا صار ابن عيينة، ومعنى (أزواجا منهم) أي أمثال في النعم، أي الأغنياء بعضهم أمثال بعض في الغنى، فهم أزواج. الثانية: هذه الآية تقتضي الزجر عن التشوف إلى متاع الدنيا على الدوام، وإقبال العبد على عبادة مولاه.

وقيل: المعنى لا تحزن على ما متعوا به في الدنيا فلك في الآخرة أفضل منه، وقيل: لا تحزن عليهم إن صاروا إلى العذاب فهم أهل العذاب.

{واخفض جناحك للمؤمنين} أي ألن جانبك لمن آمن بك وتواضع لهم.

وأصله أن الطائر إذا ضم فرخه إلى نفسه بسط جناحه ثم قبضه على الفرخ، فجعل ذلك وصفا لتقريب الإنسان أتباعه. ويقال: فلان خافض الجناح، أي وقور ساكن، والجناحان من ابن آدم جانباه، ومنه «واضم يدك إلى جناحك» وجناح الطائر يده.

وإنما قال في هذه السورة لا تمدن بغير واو؛ لأنه لم يسبقه طلب بخلاف ما في سورة طه، ثم لما نهاه عن الالتفات إلى أموالهم وأمتعتهم نهاه عن الالتفات إليهم، فقال: ولا تحزن عليهم حيث لم يؤمنوا وصمموا على الكفر والعناد.

والنهي عن الحزن عليهم شامل لكن حالا من أحوالهم من شأنها أن تحزن الرسول – صلى الله عليه وسلم – وتؤسفه، فمن ذلك كفرهم كما قال -تعالى-: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} (الكهف:6)، ومنه حلول العذاب بهم مثلما حل بهم يوم بدر فإنهم سادة أهل مكة، فلعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يتحسر على إصرارهم حتى حل بهم ما حل من العذاب؛ ففي هذا النهي كناية عن قلة الاكتراث بهم عن توعدهم بأن سيحل بهم ما يثير الحزن لهم، وكناية عن رحمة الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالناس.

ولما كان هذا النهي يتضمن شدة قلب وغلظة لا جرم اعترضه بالأمر بالرفق للمؤمنين بقوله: {واخفض جناحك للمؤمنين}، وهو اعتراض مراد منه الاحتراس، وهذا كقوله: {أشداء على الكفار رحماء بينهم} (الفتح:29).

ونورد هنا حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – عن عقبة بن عامر قال: خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ونحن في الصفة، فقال: «أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطع رحم؟» فقلنا يا رسول الله نحب ذلك، قال: «أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله -عز وجل- خير له من ناقة أو ناقتين وثلاث خير له من ثلاث وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل». رواه مسلم. وعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها». رواه مسلم.