مازال الحديث مستمراً عن مظاهر تكريم الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وقلنا أنها كثيرة في القرآن الكريم وفي السنة النبوية ففي الصحيح: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما أنزل عليه: {وأنذر عشيرتك الأقربين} (الشعراء:214)، خرج حتى صعد الصفا؛ فنادى: يا صباحاه (كلمة ينادي بها من يطلب النجدة)؛ فاجتمعوا إليه فقال: أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقيَّ؟ قالوا: نعم. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد».

وشمل اسم النذير جوامع مع ما في الشريعة من النواهي والعقوبات، وهو قسم الاجتناب من قسمي التقوى؛ فإن المنهيات متضمنة المفاسد؛ فهي مقتضية تخويف المقدمين على فعلها من سوء الحال في العاجل والآجل، وقد قال تعالى{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} والداعي إلى الله هو الذي يدعو الناس إلى ترك عبادة غير الله، ويدعوهم إلى اتباع ما يأمرهم به الله. وزيادة (بإذنه) ليفيد أن الله أرسله داعيا إليه ويسر له الدعاء إليه مع ثقل أمر هذا الدعاء وعظم خطره. وقوله وسراجا منيرا، تشبيه بليغ بطريق الحالية، وهو طريق جميل، أي أرسلناك كالسراج المنير في الهداية الواضحة التي لا لبس فيها، التي لا تترك للباطل شبهة إلا فضحتها، وأوقفت الناس على دخائلها، كما يضيء السراج الوقاد ظلمة المكان.

وهذا الوصف يشمل ما جاء به النبي – صلى الله عليه وسلم – من البيان وإيضاح الاستدلال وانقشاع ما كان قبله في الأديان من مسالك للتبديل والتحريف؛ فشمل ما في الشريعة من أصول الاستنباط والتفقه في الدين والعلم؛ فإن العلم يُشبَّه بالنور فناسبه السراج المنير، وهذا وصف شامل للأوصاف جميعها، التي وصف بها آنفا ووصف السراج بالمنير، مع أن الإنارة من لوازم السراج هو كوصف الشيء بالوصف المشتق من لفظه في قوله: شِعْرُ شاعر، ولَيلٌ أَلْيَلُ لإفادة قوة معنى الاسم في الموصوف به الخاص؛ فإن هدى النبي – صلى الله عليه وسلم – هو أوضح الهدى، وإرشاده أبلغ إرشاد.

روى البخاري في كتاب (التفسير) من صحيحه في الكلام على سورة الفتح، عن عطاء بن يسار أن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: «إن هذه الآية التي في القرآن: {يأيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا}، قال في التوراة: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح (أو يغفر)، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح (أو فيفتح) به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفاء» أ هـ.

في الإصحاح الثاني والأربعين من العهد القديم: «هو ذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سرت به نفسي، وضعت روحي عليه؛ فيخرج الحق للأمم، لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته، قصبة مرضوضة لا تقصف، وفتيلة خامدة لا تطفأ، إلى الأمان يخرج الحق، لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته، أنا الرب قد دعوتك بالبر؛ فأمسك بيدك، وأحفظك، وأجعلك عهدا للشعب، ونورا للأمم لتفتح عيون العمي، لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن، الجالسين في الظلمة، أنا الرب هذا اسمي ومجدي لا أعطيه لآخر».

وإليك نظائر صفته التي في التوراة من صفاته في القرآن: {يا أيها النبي إنا إرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} نظيرها هذه الآية وحرزا للأميين: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} (الجمعة:2)، أنت عبدي ورسولي: {الحمدلله الذي أنزل على عبده الكتاب} (الكهف:1)، سميتك المتوكل {وتوكل على الله} (الأحزاب:3)، ليس بفظ ولا غليظ {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران:159)، ولا صخاب في الأسواق: {وأغضض من صوتك} (لقمان:19) ولا يدفع السيئة بالسيئة: {ادفع بالتي هي أحسن} (فصلت) ولكن يعفو ويصفح: {فاعف واصفح} (العقود)، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة)، ويفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} (البقرة)، في ذكر الذين كفروا مقابلا لذكر المؤمنين في قوله قبله هدى للمتقين الآية.