مازلنا في الحديث عن قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (البقرة: 120)وفي هذه الآية من الوعيد الشديد الذي ترجف له القلوب، وتتصدع منه الأفئدة، ما يوجب على أهل العلم الحاملين لحجج الله -سبحانه- والقائمين ببيان شرائعه، ترك الدهان لأهل البدع المتمذهبين بمذاهب السوء، التاركين للعمل بالكتاب والسنة؛ فإن غالب هؤلاء وإن أظهر قبولا وأبان من أخلاقه ليناً لا يرضيه إلا اتباع بدعته، والدخول في مداخلها، والوقوع في حبائلها، فإن فعل العالم ذلك بعد أن علمه الله من العلم ما يستفيد به أن هدى الله هو ما في كتابه وسنة رسوله، لا ما هم عليه من تلك البدع التي هي ضلالة محضة، وجهالة بينة؛ فهو إذ ذاك ماله من الله من ولي ولا نصير، ومن كان كذلك فهو مخذول لا محالة، وهالك بلا شك.

ومفهوم هذا المصرح به في آيات أخرى، أن ثباته على هدى الله المؤيد بالعلم هو الذي يكون سببا لتوليه -تعالى- له ونصره إياه عليهم. ومن المعلوم أن شرط (إن) لا يقتضي الوقوع، فهو لا يدل على أن اتباع أهوائهم متوقع منه – صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو فرض فُرض لبيان مضمونه الذي ذكرنا، وفيه أن من سنن الله تأييد متبعي الهدى على علم صحيح وأنهم هم الغالبون المنصورون.

من تدبر هذا الإنذار الشديد الموجه من الله – تعالى – إلى نبي الرحمة، المؤيد منه بالكرامة والعصمة، علم أن المراد به الوعيد والتشديد على الأمة فإن الله – تعالى – يخاطب الناس كافة في شخص النبي – صلى الله عليه وسلم-، وهو يعلم -جل شأنه- أنه لا يتبع أهواءهم في حال من الأحوال، وقد عصمه من الزيغ والضلال، إنما جاء على هذا الأسلوب؛ ليرشد من يأتي بعده ممن يتبع سنته ويأخذبهديه. وقوله: (ما لك من الله من ولي ولا نصير) تحذير لكل من تلقى الإسلام ألا يتبع بعد الإسلام أهواء الأمم الأخرى، جاء على طريقة تحذير النبي – صلى الله عليه وسلم – مثل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الزمر: 65)، {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ}

ولقد أنزلنا هذا القرآن والكتاب حكما، عربيا أي: محكما متقنا، بأوضح الألسنة وأفصح اللغات، لئلا يقع فيه شك واشتباه، وليوجب أن يتبع وحده، ولا يداهن فيه، ولا يتبع ما يضاده ويناقضه من أهواء الذين لا يعلمون. ولهذا توعد رسوله مع أنه معصوم؛ ليمتن عليه بعصمته، ولتكون أمته متأسية به في الأحكام فقال: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ}، البين الذي ينهاك عن اتباع أهوائهم، {ما لك من الله من ولي} يتولاك فيحصل لك الأمر المحبوب، {ولا واق} يقيك من الأمر المكروه.

لما ذكر حال تلقي أهل الكتابين للقرآن عند نزوله عرج على حال العرب في ذلك بطريقة التعويض بسوء تلقي مشركيه له مع أنهم أولى الناس بحسن تلقيه؛ إذ نزل بلسانهم مشتملا على ما فيه صلاحهم وتنویر عقولهم. وقد جعل أهم هذا الغرض التنويه بعلو شأن القرآن لفظا ومعنی، وأدمج في ذلك تعريض بالمشركين من العرب.

فحصل لهذا الكتاب كمالان: كمال من جهة معانيه ومقاصده وهو كونه حكما، وكمال من جهة ألفاظه وهو المكنى عنه بكونه عربيا، وذلك ما لم يبلغ إليه كتاب قبله؛ لأن الحكمة أشرف المعقولات فيناسب شرفها أن يكون إبلاغها بأشرف لغة وأصلحها للتعبير عن الحكمة. والولي: النصير. والواقي: المدافع. وجعل نفي الولي والنصير جوابا للشرط كناية عن الجواب، وهو المؤاخذة والعقوبة.

والمقصود من هذا تحذير المسلمين من أن يركنوا إلى تمويهات المشركين، والتحذير من الرجوع إلى دينهم تهييجا لتصلبهم في دينهم.