مازلنا في الحديث عن نداء الله- تبارك وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم في سورة الأحزاب الذي قال فيه ربنا سبحانه وتعالى:{ ياأيها النبي اتق الله} (الآية) وقلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم نودي خمس مرات في افتتاح أغراض مختلفة من التشريع.

فهذا النداء الأول افتتح به الغرض الأصلي لبقية الأغراض وهو تحديد واجبات رسالته في تأدية مراد ربه -تعالى- على أكمل وجه دون أن يفسد عليه أعداء الدين أعماله، وهو نظير النداء الذي في قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} (المائدة: 67)، وقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} (المائدة: ).

ونداء النبي – صلى الله عليه وسلم – بوصف النبوَّة دون اسمه العلم تشريف له بفضل هذا الوصف ليُربأ بمقامه عن أن يخاطب بمثل ما يخاطب به غيره؛ ولذلك لم ينادَ في القرآن بغير: {يا أيها النبي} أو: {يا أيها الرسول} (المائدة: 67) بخلاف الإخبار عنه فقد يجيء بهذا الوصف كقوله {يوم لا يُخزِي الله النبي} (التحريم: 8) {وقال الرسول يا رب} (الفرقان: 30) {قل الأنفال لله والرسول} (الأنفال: 1) {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} (الأحزاب: 6)، ويجيء باسمه العلم كقوله: {ما كان محمدٌ أبا أحد من رجالكم} (الأحزاب: 40).

وقد يتعين إجراء اسمه العلم ليوصف بعده بالرسالة كقوله -تعالى-: {محمد رسولُ الله} (الفتح: 29) وقوله: {وما محمد إلا رسولٌ} (آل عمران: 144). وتلك مقامات يقصد فيها تعليم الناس بأن صاحب ذلك الاسم هو رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، أو تلقين لهم بأن يسمُّوه بذلك.

والأمر للنبي – صلى الله عليه وسلم – بتقوى الله توطئة للنهي عن اتباع الكافرين والمنافقين؛ ليحصل من الجملتين قصر تقواه على التعلق بالله دون غيره؛ فإن معنى: {ولا تطع} مرادف معنى: لا تتق الكافرين والمنافقين، فإن الطاعة تقوى؛ فصار مجموع الجملتين مفيدا معنى: يا أيها النبي لا تتق إلا الله، فعدل عن صيغة القصر إلى ذكر جملتي أمر ونهي؛ لقصد النص على أنه قصر إضافي أريد به ألا يطيع الكافرين والمنافقين؛ لأنه لو اقتصر على أن يقال: لا تتق إلا الله، لما أصاخت إليه الأسماع إصاخة خاصة؛ لأن تقوى النبي – صلى الله عليه وسلم – ربه أمر معلوم، فسلك مسلك الإطناب لهذا.

وقد تعين بهذا أن الأمر في قوله: {اتق الله} والنهي في قوله: {ولا تطع الكافرين والمنافقين} مستعملان في طلب الاستمرار على ما هو ملازم له من تقوى الله، فأشعر ذلك أن تشريعا عظيما سيلقى إليه لا يخلو من حرج عليه فيه وعلى بعض أمته، وأنه سيلقى مطاعن الكافرين والمنافقين.

وفائدة هذا الأمر والنهي التشهير لهم بأن النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يقبل أقوالهم لييأسوا من ذلك؛ لأنهم كانوا يدبرون مع المشركين المكايد، ويظهرون أنهم ينصحون النبي – صلى الله عليه وسلم – ويلحون عليه بالطلبات نصحا وتظاهرا بالإسلام. وقد وصف الله رسوله محمداً – صلى الله عليه وسلم -، بخمسة أشياء: أحدها: {شاهدا} أي شاهدا على أمته بما عملوه.

– الثاني والثالث: كونه: {مبشرا ونذيرا} وهذا يستلزم ذكر المبشر والمنذر، وما يبشر به وينذر، والأعمال الموجبة لذلك.

– الرابع: كونه: {داعيا إلى الله} أي: أرسله اللّه، يدعو الخلق إلى ربهم، ويسوقهم لكرامته، ويأمرهم بعبادته، التي خلقوا لها، وذلك يستلزم استقامته، على ما يدعو إليه، وذكر تفاصيل ما يدعو إليه، بتعريفهم لربهم بصفاته المقدسة، وتنزيهه عما لا يليق بجلاله، وذكر أنواع العبودية، والدعوة إلى اللّه بأقرب طريق موصل إليه، وإعطاء كل ذي حق حقه، وإخلاص الدعوة إلى اللّه، لا إلى نفسه وتعظيمها، كما قد يعرض ذلك لكثير من النفوس في هذا المقام، وذلك كله بِإِذْنِ الله تعالى له في الدعوة وأمره وإرادته وقدره.

– الخامس: كونه: {سِرَاجًا مُنِيرًا} وذلك يقتضي أن الخلق في ظلمة عظيمة، لا نور يهتدى به في ظلماتها، ولا علم يستدل به في جهالاتها حتى جاء اللّه بهذا النبي الكريم؛ فأضاء اللّه به تلك الظلمات، وعلم به من الجهالات، وهدى به ضُلَّالًا إلى الصراط المستقيم.

– وماذا كانت ردة فعل صاحبك بعد هذه القراءة؟

– قال: أنا لا أنكر شيئا مما قلت ولكني لست بحاجة إلى قراءة كل هذه الكتب حتى أعرف المعنى.

– قلت في قرارة نفسي: «كنت أعلم أنك لن تنتفع بشيء من الحق»، ولكن كان همي بقية الحضور، وأظنهم -بفضل الله- استفادوا مما سمعوا!