استكمالاً للحديث عن قصة زيد بن حارثة رضي الله عنه نقول: شهد زيد بدرا والمغازي كلها، وقتل في عزوة مؤتة سنة ثمان وهو أمير على الجيش وهو ابن خمس وخمسين سنة.

وجملة وتخشى الناس عطف على جملة وتخفي في نفسك، أي تخفي ما سيبديه الله وتخشى الناس من إبدائه. والخشية هنا كراهية ما يرجف به المنافقون، والكراهة من ضروب الخشية فليست هي خشية خوف؛ إذ النبي – صلى الله عليه وسلم- لم يكن يخاف أحدا من ظهور تزوجه بزينب. ولم تكن خشية تبلغ به مبلغ صرفه عما يرغبه بدليل أنه لم يتردد في تزوج زينب بعد طلاق زيد، ولكنها استشعار في النفس وتقدير لما سيرجفه المنافقون. والتعريف في الناس للعهد، أي تخشى المنافقين، أي يؤذونك بأقوالهم.

وجملة والله أحق أن تخشاه معترضة لمناسبة جريان ذكر خشية الناس والواو اعترضية وليست واو الحال، فمعنى الآية معنى قوله -تعالى-: {فلا تخشوا الناس واخشون} (المائدة:44)، وحملها على معنى الحال هو الذي حمل كثيرا من المفسرين على جعل الكلام عتابا للنبي – صلى الله عليه وسلم . وليس في هذا التركيب ما يفيد أنه قدم خشية الناس على خشية الله؛ لأن الله لم يكلفه شيئا فعمل بخلافه.

وبهذا تعلم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – ما فعل إلا ما يرضي الله، وقد قام بعمل الصاحب الناصح حين أمر زيدا بإمساك زوجه وانطوى على علم صالح حين خشي ما سيفترضه المنافقون من القالة إذا تزوج زينب خوفا من أن يكون قولهم فتنة لضعفاء الإيمان.

وليس في قوله: وتخشى الناس عتاب ولا لوم، ولكنه تذكير بما حصل له من توقيه قالة المنافقين. ولكنه تشجيع له وتحقير لأعداء الدين وتعليم له بأن يمضي في سبيله، ويتناول ما أباح الله له ولرسله من تناول ما هو مباح من مرغوباتهم ومحباتهم إذا لم يصدهم شيء من ذلك عن طاعة ربهم، وقد رويت في هذه القصة أخبار مخلوطة، فإياك أن تتسرب إلى نفسك منها أغلوطة، فلا تصغ ذهنك إلى ما ألصقه أهل القصص بهذه الآية، ومما يدل لذلك أنك لا تجد فيما يؤثر من أقوال السلف في تفسير هذه الآية أثرا مسندا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – أو إلى زيد أو إلى زينب أو أحد من الصحابة رجالهم ونسائهم، ولكنها كلها قصص وأخبار وقيل وقال. ولسوء فهم الآية كبر أمرها على بعض المسلمين واستفزت كثيرا من الملاحدة وأعداء الإسلام من أهل الكتاب. وقد تصدى أبوبكر بن العربي في (الأحكام) لوهن أسانيدها وكذلك عياض في (السفاء). فزيد كان من أشد الناس اتصالا بالنبي – صلى الله عليه وسلم -، وزينب كانت ابنة عمته وزوج مولاه ومتبناه، فكانت مختلطة بأهله، وهو الذي زوجها زيدا، فلا يصح أن يكون ما رآها إلا حين جاء بيت زيد.

وأما إشارة النبي – صلى الله عليه وسلم – على زيد بإمساك زوجه مع علمه بأنها ستصير زوجة له فهو أداء لواجب أمانة الاستنصاح والاستشارة، وقد يشير المرء بالشيء يعلمه مصلحة وهو يوقن أن إشارته لا تمتثل. وفي هذه الآيات المشتملات على هذه القصة، فوائد منها: الثناء على زيد بن حارثة، وذلك من وجهين:

أحدهما: أن الله سماه في القرآن، ولم يسم من الصحابة باسمه غيره. والثاني: أن الله أخبر أنه أنعم عليه، أي: بنعمة الإسلام والإيمان. ومنها: أن الرسول – صلى الله عليه وسلم -، قد بلغ البلاغ المبين، فلم يدع شيئا مما أوحي إليه، إلا وبلغه، وقال الحسن: ما أنزلت عليه آية كانت أشد عليه منها؛ قوله: {وتخفي في نفسك ما الله مبديه}، ولو كان النبي – صلى الله عليه وسلم – كاتما شيئا من الوحي لكتمها {وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه}، قال: خشي نبي الله صلى الله عليه وسلم مقالة الناس.

ومنها أن من الرأي الحسن لمن استشار في فراق زوجته أن يؤتمر بإمساكها مهما أمكن صلاح الحال، فهو أحسن من الفرقة.

ومنها: فضيلة زينب -رضي الله عنها- أم المؤمنين (كان اسمها برة فغيره النبي صلى الله عليه وسلم )؛ حيث تولى الله تزويجها.

علق (بومحمد)، وكان منصتا طول الوقت: هذه أول مرة أسمع تفسيرا ترتاح له نفسي في هذه الآيات؛ لأن كثيرا من كتب التفسير ينقل القصة المشهورة، جزاك الله خيرا إمامنا (بويوسف).