هناك آيات يلفت الله انتباهنا إليها وهي آيات لا تخفى على أحد، ولكن لا يعتبر بها إلا فئات من الناس.

– مثل ماذا؟

– مثل قول الله -سبحانه- في سورة النحل: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)}.

علق صاحبي:

– إن الإشارة إلى نزول المطر يرد كثيرا في كتاب الله -عز وجل-، وأنه من آيات الله.

– نعم، وذلك لما للمطر من أثر واضح بيّن منظور على الأرض، ولا يستطيع أحد أن يجلب المطر أو يحبسه إلا الله -عز وجل.

قاطعني:

– ذكرتني بنقاش إبراهيم -عليه السلام- عندما حاجّه صاحب السلطان فقال: {قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (البقرة: 258).

– نعم، هذه الآيات الكونية تتحدى الجميع، وهي آيات ظاهرة، داعمة، مستمرة، ولكن تحتاج إلى قوم (يعقلون)، و(يتفكرون)، و(منصفين)، دعنا نقرأ شيئا مما ورد في التفسير.

أخذنا مجلسا على طاولة خارجية، بعد أن قدمنا طلبنا من المأكول والمشروب.

في التفسير

ماء المطر قسمان: أحدهما: هو الذي جعله الله -تعالى- شرابا لنا ولكل حي، وهو المراد بقوله: لكم منه شراب وقد بين الله -تعالى- في آية أخرى أن هذه النعمة جليلة؛ فقال: {وجعلنا من الماء كل شيء حي} (الأنبياء:30)، فيه تسيمون أي في الشجر ترعون مواشيكم.

فالنبات الذي ينبته الله من ماء السماء قسمان: أحدهما: معد لرعي الأنعام وإسامة الحيوانات، وهو المراد من قوله: {فيه تسيمون}، والثاني: ما كان مخلوقا لأكل الإنسان وهو المراد من قوله: {ينبت لكم به الزرع والزيتون…}.

فالغذاء النباتي قسمان: حبوب، وفواكه، أما الحبوب فإليها الإشارة بلفظ الزرع وأما الفواكه فأشرفها الزيتون والنخيل والأعناب.

{إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} ختم -تعالى- هذه الآية بقوله: {لقوم يتفكرون} والسبب فيه أن الله -تعالى- ذكر أنه: أنزل من السماء ماء، ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب. ونيطت دلالة هذه بوصف التفكير؛ لأنها دلالة خفية لحصولها بالتدرج؛ لكثرة ما تحت ذلك من الدقائق.

وهو تعريض بالمشركين الذين لم يهتدوا بما في ذلك من دلالة على تفرد الله بالإلهية بأنهم قوم لا يتفكرون.

{وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (النحل:12).

آيات أخرى على دقيق صنع الله -تعالى- وعلمه ممزوجة بامتنان، وهذا انتقال للاستدلال بإتقان الصنع على وحدانية الصانع وعلمه، وإدماج بين الاستدلال والامتنان. ونيطت بالدلالات بوصف العقل؛ لأن أصل العقل كاف في الاستدلال بها على الوحدانية والقدرة؛ إذ هي دلائل بينة واضحة حاصلة بالمشاهدة كل يوم وليلة.

وأبدى الفخر في (درة التنزيل) وجها لاختلاف الأوصاف في قوله -تعالى-: {لقوم يتفكرون} (النحل:11)، وقوله: {لقوم يعقلون} (النحل:12)، وقوله: {لقوم يذكرون}: بأن ذلك لمراعاة اختلاف شدة الحاجة إلى قوة التأمل بدلالة المخلوقات الناجمة عن الأرض فيحتاج ذلك إلى التفكر، وهو إعمال النظر المؤدي إلى العلم. ودلالة ما ذرأه في الأرض من الحيوان محتاجة إلى مزيد من التأمل في التفكير للاستدلال على اختلاف أحوالها وتناسلها وفوائدها؛ فكانت بحاجة إلى التذكر، وهو التفكر مع تذكر أجناسها، واختلاف خصائصها، وأما دلالة تسخير الليل والنهار والعوالم العلوية؛ فلأنها أدق وأحوج إلى التعمق، عبَّر عن المستدلين عليها بأنهم يعقلون، والتعقل هو أعلى أحوال الاستدلال.

– إذاً باختصار الآيات الدالة على على وجود الله وقدرته وحسن صنعه وتدبيره واضحة بينة في الكون، لكنها تحتاج إلى (التفكر والتعقل والتذكر)، وبمفهوم المخالفة من لم ينتفع بهذه الآيات، لم يتفكر ولم يعقل ولم يذكر.