دخل المسجد بعد صلاة المغرب، وقد غادر جميع المصلين، بادرني بعد السلام: – كنت على يقين أنني سألقاك هنا. ابتسمت لمقولته. – أصبح الوقت بين العشاءين أقل من ساعة، وخير ما يقضي به العبد وقته (كتاب الله)، حياك الله يا (أبا أحمد). – سوف أقطع عليك خلوتك اليوم، في موضوع لعلك تثاب عليه قدر أجرك بقراءة كتاب الله. رحبت به، ودعوته للمجلس الملحق خلف حرم المسجد. – سمعت حديثا في الإذاعة عن صفة (المكر) لله -عز وجل-، وأنها مقيدة، ولا تنسب لله إلا مع من يستحقها، كقوله -تعالى-: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال:30). قاطعته: – أحسنت، نعم الآن الفكرة أوضح، وليس هذا سؤالي، وإنما سؤالي عن موضوع (الأمن من مكر الله) وأنه لا ينبغي لأحد أن يأمن مكر الله! كيف يمكن أن نفهم هذا الأمر؟ شاركنا المجلس (أبو يعقوب)، يأتي قبل الأذان لجميع الصلوات، وربما تولى مهمة الأذان إذا اعتذر مؤذننا، أو تأخر عن الموعد. أخذ (بويعقوب) مجلسه بعد السلام والاستئذان. – كنا نتحدث عن موضوع (الأمن من مكر الله). – موضوع جميل دعونا نتشارك الأجر. – أولا معنى (الأمن من مكر الله) أن يطمئن القلب ويضمن النجاة، ولا يخاف عقوبة الله -تعالى-، مع أنه مقصر في حق الله، معرض عن أوامره، كما قال -تعالى-:  {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (الأعراف: 97-99). أي عذاب الله وبأسه ونقمته وقدرته عليهم.        قاطعني (أبو حمد). – وماذا عن المؤمن؟ كيف يجب أن يكون حاله؟ – المؤمن في الدنيا يكون على وجل من أن يبتلى ويفتن؛ فيسأل الله الثبات على الدين، كما في حديث النبي – صلى الله عليه وسلم -: «يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك» (حسنه الألباني- السلسلة الصحيحة)، وكذلك لا يقنط من رحمة الله، بل يسأل الله الثبات على الدين، ويعلم أن ما فيه من خير وصلاح وهدى إنما هو من فضل الله، وهكذا دعاء المؤمنين: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} (آل عمران:8). وسئل عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – عن أكبر الكبائر فقال: «أكبر الكبائر: الشرك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله»، فالعبد الصالح يتقرب إلى الله بالطاعات ويسأل الله قبولها، ويخاف ألا تقبل لخلل في نفسه، كما في تفسير قوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (المؤمنون:60)، وفي الحديث عن أنس أن النبي – صلى الله عليه وسلم – دخل على شاب وهو يحتضر فقال – صلى الله عليه وسلم -: «كيف تجدك؟ قال والله يا رسول الله، إني أرجو الله وإني أخاف ذنوبي! فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن، إلا أعطاه الله ما يرجو، وأمنه مما يخاف» (حسنه الألباني). فالعبد المؤمن (لا يأمن مكر الله)، بمعنى لا يضمن الجنة بأعماله الصالحة، بل يخاف ألا تقبل، ويرجو رحمة الله ومغفرته على تقصيره، ويعلم يقينا أن سبيل دخول الجنة هي رحمة الله -عز وجل-، ومع ذلك يجتهد في الطاعات ويبتعد عن المعاصي، وهنا يحضرني حديث النبي – صلى الله عليه وسلم -، عن أبي هريرة وعائشة -رضي الله عنهما- وجابر وأبي سعيد الخدري -رضي الله عنهما- قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة، قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة (مرتين أو ثلاثا) فسددوا وقاربوا وأبشروا» (السلسلة الصحيحة). – يقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في قوله -تعالى-: {أفأمنوا مكر الله}: دليل على أن لله مكرا، والمكر هو التوصل إلى الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر، فإن قيل: كيف يوصف الله بالمكر مع أن ظاهره أنه مذموم؟، قيل المكر إذا نسب إلى الله فإنه محمود، ويدل على قوة الماكر وأنه غالب على خصمه؛ ولذلك لا يوصف الله به على الإطلاق؛ فلا يجوز أن تقول: إن الله ماكر، وإنما تذكر هذه الصفة في مقام تكون فيه مدحا لله -عز وجل-، مثل قوله -تعالى- {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (النمل:50)، ومثل قوله -تعالى-: {ويمكرون ويمكر الله} (الأنفال)، والمعنى: «فمكر الله -عز وجل- فيمن يستحقه من أعدائه، وفيمن يمكر بأنبيائه وأوليائه، فهو صفة كمال ومدح لله -عز وجل-؛ لأنه يقع على من يستحقه». – وما خلاصة هذا الموضوع يا (أبا معاذ)؟ – خلاصته أن قلب العبد المؤمن ينبغي أن يكون على وجل من عذاب الله، وعلى خوف من سوء العاقبة، وأن يخلو من الاتكال على حوله وقوته، ويتعلق بالله -عز وجل-، في ثباته على الدين، والتزامه أوامر الله، ويكثر دعاء الله -عز وجل- أن يثبته على دينه، وأن يميته على الإسلام، وأن يرزقه حسن الخاتمة وألا يزيغ قلبه بعد الهداية، وأن يحفظه من الفتن وألا يجعل مصيبته في دينه، وأن يرزقه الصدق والإخلاص في العمل، ومع كل ذلك يحسن الظن بالله، بأنه لا يضيع أجر المحسنين.