– مشكلة كثير من الذين يرجعون إلى الدين بعد سنوات من الغفلة والانغماس في الشهوات، أنهم يريدون أن يطبقوا كل شيء؛ وذلك لحماسهم في بادئ الأمر، مما يؤدي بهم -أحيانا- إلى انتكاسة أخرى! – والعلاج.. أو الحل؟ – الحل، اتباع هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – والعلم الشرعي الصحيح، والعقيدة الصحيحة، والعبادات وفق السنة، والأخلاق والعبادات القلبية، ودعاء الله، في الحديث عن أبي هريرة – رضي الله. عنه – أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم – قال: «إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه؛ فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» (البخارى). والمعنى: النهي عن التشديد في الدين بأن يحمل الإنسان نفسه من العبادة ما لا يحتمله إلا بتكلف؛ فالدين لا يؤخذ بالمغالبة، (فسددوا) الزموا التوسط في العمل، ولا تهلكوا أنفسكم في طلب الكمال، وإنما اعملوا بما يقرب إليه. كنت وصاحبي في طريقنا إلى المقبرة نؤدي صلاة العصر، ونصلي على جنازة ونتبعها حتى تدفن رجاء أجر القيراطين! – بعض الناس يلزم أهله، ما لا يطيقون، بعد أن كان يسمح لهم بكل شيء، كان يسمح لهم بالفضائيات، والخروج إلى الأسواق، والمطاعم، وبعد تغير حاله، حرّم دخول التلفاز إلى بيته! – بصراحة  معظم ما يعرض في التلفاز لا يتفق وتعاليم شريعتنا. – صدقت، ولكن بالحكمة، والحلم والأناة، وإذا رجعنا إلى تعاليم الإسلام، نجد أن النبي – صلى الله عليه وسلم – وصفها بـ(اليسر)، بل ونهى -صلى الله عليه وسلم – عن الغلو في الدين؛ ففي الحديث عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على راحلته-: «هات ألقط لي، (أي حصيات رمي الجمرات)، فلقطت له حصيات هن حصى الخذف، فلما وضعتهن في يده قال: بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين! فإنما أهلك من  كان قبلكم الغلو في الدين» (السلسلة الصحيحة). – بعض الناس يرى التزام هدي النبي -صلى الله عليه وسلم – (غلوا)، وكأن الأمر نسبي. – قطعا، ليس الأمر كذلك، هدي النبي -صلى الله عليه وسلم – هو الكمال في كل شيء، وتعرف حديث الثلاثة الذين أتوا يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم – فكأنهم تقالوها، وقالوا:  أين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم -، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثالث: وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم – إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي، فليس مني» البخاري. دخلنا المسجد، وقد أذن للعصر، لاحظت أنهم يؤخرون إقامة الصلاة إلى نصف ساعة بعد الأذان، أدينا السنة وانتظرنا إقامة الصلاة، صلينا على جنازتين، وانتظرنا دفنهما، في طريق عودتنا تابعنا الحديث: – والغلو في الدين، مثل ألا يتكلم إذا صام، أو لا يصلي في مكان إلا أن يضع سجادته لأنه يشك في طهارة المكان، أو أن يغير ثيابه كلما دخل لقضاء حاجته، أو أن يمتنع عن الأكل إلا من طبخ بيته، وقد بيّن الله -عز وجل- أن هذا الغلو كان في أمم قبلنا؛ فقال -تعالى-: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد:27). {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} والرهبانية: العبادة، فهم ابتدعوا من عند أنفسهم عبادة، ووظفوها على أنفسهم، والتزموا لوازم ما كتبها الله عليهم ولا فرضها، بل هم الذين التزموها من تلقاء أنفسهم، قصدهم بذلك رضا الله -تعالى-، ومع ذلك {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}، أي: ما قاموا بها ولا أدوا حقوقها، فقصروا من وجهين: من جهة  ابتداعهم، ومن جهة عدم قيامهم بما فرضوه على أنفسهم، فهذه الحال هي الغالب من أحوالهم. وهذا ما بينه النبي -صلى الله عليه وسلم – في الحديث: «إنما أهلك من  كان قبلكم الغلو في الدين»، وكذلك قال الله -تعالى-: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}. – وكيف يكون الغلو في الدين من ذنوب القلوب، وهو زيادة في العبادة؟! – مصدر هذه الزيادة اعتقاد في القلب، بأن هذا أقرب إلى الله وأحب إلى الله وأثوب عند الله، وإلا ما فعله، دافع هذه العبادات أمر قلبي، فإذا استقام القلب، صلحت العبادة؛ لذلك هو من ذنوب القلوب. – وماذا عن حديث: «هلك المتنطعون؟». – هو حديث متفق عليه. عن الأحنف بن قيد بن مسعود – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون». أي المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم. وبلغ النبي -صلى الله عليه وسلم – أن  قوما أرادوا أن يختصموا وحرموا الطيبات واللحم على أنفسهم؛ فقام النبي – صلى الله عليه وسلم – وأوعد في ذلك أشد الوعيد وقال: «لم أبعث بالرهبانية، وإن  خير الدين عند الله الحنفية السمحة، وإن أهل الكتاب هلكوا بالتشديد، شدوا فشدد عليهم». – وماذا عن الغلو في الصالحين؟ – هذا أشد أنواع الغلو، وقد يؤدي إلى الشرك، وله شرح سيأتي -إن شاء الله.