من المؤلم أن تحسن إلى بعض الناس فيسيء إليك، وتقف معه في محنته ثم ينقلب عليك، وتنعم عليه بخيرك، ثم يكفر بعطاياك. – بل العبد ينبغي أن يتوقع ذلك من البشر، فيذكر نفسه أن يحسن للآخرين دون أن يتوقع منهم شيئا، بل يكون دافعه دائما رضا الله وثوابه، لا ثناء الناس، وشكرهم لمعروفه. كان صاحبي يحدثني بشيء من الحسرة والحزن؛ لما رآه من سوء تعامل أحد أقربائه. دعني أحدثك عن الجحود، فهومن ذنوب القلوب. لغة (ج ح د) تدل على قلة الخير، ولا يكون الجحود إلا مع علم الجاحد به، أي يعلم ما يجحد، كما قال -تعالى-: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (النمل:14). وقيل (الجحود) هو الإنكار مع العلم، كما قال -تعالى-: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام:33). أخذنا مجلسنا في المقهى المطل على الشاطئ، مكان هادئ يوم الثلاثاء، بعد صلاة العشاء. – والجحود نوع من أنواع الكفر، فهناك كفر العناد، ككفر إبليس، وكفر النفاق، وكفر الإعراض، وكفر الشك، وكفر الإنكار، وكفر الشرك. وكفر الجحود مصدره الاستكبار، كما في قوله -تعالى-: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} (فصلت:13). وكفر الجحود نوعان: مطلق عام، ومقيد خاص. فالعام هو إنكار جملة ما أنزل الله، والخاص أن يجحد شيئا من الدين، كالصلاة أو الصيام أو حرمة شيئا من الكبائر مما يعلم بالضرورة. قام النادل بوضع طلبنا من الشاي الأخضر وشاي البابونج والمكسرات، والحلويات، وسكب لكل طلبه. تابعت حديثي: – وورد ذكر أهل الجحود في كتاب الله بأشنع الصفات؛ فقال -تعالى-: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (الأحقاف:26). الذين لا تنفعهم أفئدتهم وأبصارهم وسمعهم وصفهم الله في آية أخرى فقال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف:١٧٩). ووصفهم الله -عز وجل- في آية أخرى فقال: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (غافر:٦٢-٦٣)، فهم أهل إفك وكذب، وقال الله عنهم في سورة لقمان: {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)}. والختار هو الغدار. ووصف الله أهل الجحود بالكفر وبالظلم. فقال -تعالى-: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} (العنكبوت:٤٧-٤٩)، وذلك أن الحق بيّن والحجة واضحة لا ينكرها إلا ظالم، كافر، متكبر، غدار، وهكذا كان حال كفار قريش، في تفسير قوله -تعالى-: {وختم على سمعه وقلبه} (الجاثية:٢٣)، قال مقاتل: نزلت في أبي جهل، وذلك أنه طاف بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد بن المغيرة، فتحدثا في شأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – فقال أبو جهل: والله إني لأعلم أنه لصادق! فقال له الوليد: يا أبا الحكم وما دلك على ذلك؟! قال: يا أبا عبد شمس، كنا نسميه في صباه الصادق الأمين، فلما تم عقله وكمل رشده نسميه الكذاب الخائن! والله إني لأعلم أنه لصادق، قال: فما يمنعك أن تصدقه وتؤمن به؟ قال: تتحدث عني قريش أني قد اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة؟ واللات والعزى إن اتبعته أبدا! هذا هو الجحود، يعلم الحق، ولا يتبعه استكبارا. قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أنه حدث أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم – وهو يصلي من الليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض لا تعودوا فلو راكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع تفرقوا، فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود؛ فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا؛ فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد، فقال يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها، قال الأخنس وأنا والذي حلفت به، قال ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته، فقال يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال ماذا سمعت، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء؛ فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا، ولا نصدقه! قال فقام عنه الأخنس وتركه. نسأل الله العافية، وحسن الخاتمة. ذهب عن صاحبي بعض ما كان في قلبه من حزن وكدر. – هل تعلم أن من أسباب سوء الخاتمة والعياذ بالله، كفر نعم الله، والشك في قدر الله، وجحود أوامره -سبحانه-؛ فوقت الاحتضار لا يملك العبد من أمره شيئا؛ فيموت على ما كان عليه، من كان على ذكر الله، يسر الله له ذكره، ومن كان منغمسا في أهوائه، استحضرها ساعة موته، ومن كان منشغلا بأمواله، مات وهو يعدها، ومن كان جاحدا، حجب عنه ما يرجو من -رحمة الله.