بعد صلاة الجمعة، اجتمعنا عند (أبي مشعل)، وكان قد رجع من رحلة علاج لزوجته، أقام مأدبة غداء لسلامتها بعد نجاح العملية، أراد خطيبنا، الاعتذار عن الحضور لحاجته إلي الراحة بعد الخطبة، ولكنه خضع لإصرارنا. لم يكن المجلس قد اكتمل، كان الضيوف يتوافدون من مساجد أخرى، نعرف أغلبهم، طلب صاحب الضيافة انتباهنا. – سوف يكون الغداء بعد ربع ساعة بحسب اتفاقي مع جميع المدعوين، وفي هذه الأثناء ليت شيخنا من الأردن يمتعنا بخاطرة نستفيد منها! كان المقصود دكتورا في كلية الشريعة، في الجامعة الأردنية، قضى فترة دراسته في المدينة المنورة. – يا (أبا مشعل)، للتو خرج الناس من صلاة الجمعة واستمعوا للموعظة والعلم الشرعي، فلا داعي لزيادة موعظة. ألح المضيف وبعض الحضور على ضيفنا فاستجاب. – إن أكبر هم للعبد الصادق مع الله، هو أن يرى ثواب عمله يوم القيامة حسنات وأجرا يدخله الجنة، ولعل أعظم ما يحبط العمل، (الرياء)، الشرك الخفي، الذي وصفه النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال:  عن معقل بن يسار قال: انطلقت مع أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال يا أبا بكر: للشرك فيكم أخفى من دبيب النمل، فقال أبو بكر – رضي الله عنه -: وهل الشرك إلا من جعل مع الله إلها آخر؟ فقال – صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده للشرك أخفى من دبيب النمل ألا أدلك على شيء إذا قلته ذهب عنك قليله وكثيرة؟! قل: «اللهم إني أعوذ بك من أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم» (صحيح الأدب المفرد). وفي مسند الإمام أحمد، عن محمود بن لبيد قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء، يقول الله -عز وجل-لأصحاب ذلك (الرياء) يوم القيامة إذا جازى الناس، اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟!» (السلسلة الصحيحة). يقول ابن القيم -رحمه الله-: «إن القلب يعرض له مرضان عظيمان، إن لم يتداركهما العبد تراميا به إلى التلف ولابد، وهما الرياء والكبر، فدواء الرياء (إياك نعبد) ودواء الكبر (إياك نستعين)، وكثيرا ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: (إياك نعبد) تدفع الرياء و(إياك نستعين) تدفع الكبرياء». همس الذي بجانب الشيخ في أذنه. تابع الشيخ حديثه. – يريد أبو مصعب أن نشرح هذه العبارة، بالطبع هي ما نقرؤه في الفاتحة في كل ركعة من كل صلاة فرض أو نافلة، فإذا حققنا (إياك نعبد)، بمعنى أن عباداتنا خالصة لك وحدك يا رب، وهذه العبارة كما تعلمون أبلغ من قولك (نعبدك)، قدم (إياك) على المعبود ، لحصر العبادة له وحده -سبحانه-؛ فمعناها لا نبعد سواك، بل عباداتنا كلها لك وحدك يا رب، وهذا يطهر العبادة من الرياء؛ لأن الرياء عمل قلبي، ينعكس علي الجوارح وغالبا ما يصاحب العبادة، إذا رآها الآخرون؛ ففي صحيح ابن ماجه، عن أبي سعيد الخدري قال: خرج علينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ونحن نتذاكر المسيح الدجال؛ فقال – صلى الله عليه وسلم -: «ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قال: قلنا بلى يا رسول الله، قال – صلى الله عليه وسلم -: الشرك الخفي، أن يقوم الرجل يصلي فيزين صلاته لما يرى من نظرة الناس إليه». والرياء، غالبا يقع في أثناء العمل، ربما يبدأ العبد العبادة يريد وجه الله، فيدخل قلبه الرياء، فيعمل لأجل من يرى أو يسمع، فيحبط عمله، وذلك أن يريد أن يرى الناس حسن عمله! ففي صحيح مسلم عن جندب بن عبدالله – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «من سمّع سمّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به». ومعنى هذا الحديث، أن جزاء من أراد أن يسمع الناس عبادته، أو يرى الناس عبادته، يفضحه الله يوم القيامة، ويحبط عمله، ويدخله النار، وهذا مبين في حديث أول من تسعر بهم النار يوم القيامة. عن عقبة بن مسلم حدثه أن شفيا الأصبحي حدثه: أنه دخل المدينة، فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ قالوا: أبو هريرة – رضي الله عنه -، قال: فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدث الناس، فلما سكت وخلا قلت له: أسألك بحق وبحق لما حدثتني حديثا سمعته من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعقلته وعلمته، فقال أبو هريرة – رضي الله عنه -: أفعل لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – علقته وعلمته، ثم نشغ أبو هريرة نشغة فمكثنا قليلا، ثم أفاق، فقال لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنا وهو في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى، ثم أفاق ومسح عن وجهه فقال: أفعل لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنا وهو في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره ثم نشغ أبوهريرة – رضي الله عنه – نشغة شديدة ثم مال خارا على وجهه فأسندته طويلا، ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن الله -تبارك وتعالى- إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية! فأول من يدعى به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله -عز وجل- للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي قال: بلى يا رب، قال: فما عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله -عز وجل- له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت ويقول الله -تبارك وتعالى-: بل أردت أن يقال فلان قارئ، وقد قيل ذلك، ويؤتى بصاحب المال، فيقول الله -عز وجل-: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد، قال بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال كنت أصل الرحم، وأتصدق، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله -تبارك وتعالى-: بل أردت أن يقال فلان جواد وقد قيل ذلك، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له: في ماذا قتلت؟ فيقول أي رب أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذلك، ثم ضرب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على ركبتي فقال: يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة». أشار صاحب الدعوة بأن موعد الغداء قد حضر، فأراد الشيخ أن يختم حديثة. – أختم بأن العبد ينبغي أن يراقب قلبه دائما، ويجدد الإخلاص لله دائما، وأن يسأل الله النجاة من هذا الذنب القلبي. ففي صحيح الجامع قال – صلى الله عليه وسلم -: «من استطاع منكم أن يكون له خبيء من عمل صالح فليفعل»، والحمدلله رب العالمين، قوموا إلى غدائكم.