من الأمور التي أحرص عليها عند جدولة السفر، ألا تفوتني صلاة الجمعة، ولاسيما إذا كان الترتيب مسؤوليتي، دون التزام بموعد مستشفى أو محاضرة في مؤتمر أو غير ذلك. كنت وصاحبي في رحلة لتفقد منزله في إسبانيا، أدينا صلاة الجمعة في مسجد جميل، واسع، خارج (ماربيا)، بعد الصلاة كان هناك (غداء خيري)، شاركنا فيه. جاورني شخص ملتح، بادرته بالسلام، عرفت بعد ذلك أنه من ليبيا، سألني:

  • ما رأيك بالخطبة؟
  • كانت موعظة جيدة، ذكرنا فيها بالآخرة، والأعمال الصالحة المنجية، ويحتاج أحدنا لمثل هذه المواعظ، مع كثرة مشاغل الدنيا.
  • وهكذا هو دائما، يتكلم عن الأعمال الصالحة والآخرة والنجاة من النار، وهذه الأمور، ولم أسمعه مرة قط يتكلم عن حكام البلاد الإسلامية، وأنهم أصبحوا عبيدا لليهود والنصارى، وخدما للصهيونية وأمريكا. كان حريصا ألا يسمعنا أحد، مع حماسه في كلامه، تابع حديثه: – هذا وغيره، أئمة السلاطين، يتكلمون بقدر ما يدفع لهم، كالمنافقين، أغضبني كلامه، تمالكت نفسي.
  • لم تصلي خلفه إذا كنت لا تحب ما تسمع؟
  • مع الأسف جميع المساجد هنا، تتبع ذات المنهج (التطبيل) للحكام والدعاء لهم، والتذكير بالآخرة، ولا أحد ينتقدهم أبدا، كلهم يتكسبون بخطبهم، ويريدون رضا أسيادهم عنهم، وبصراحة أرى ذلك (نفاقا).
  • أظن أنه ينبغي أن تتريث قبل أن نصف أحدا بالنفاق.

النفاق عمل قلبي بالدرجة الأولى، وذنب عظيم، من يمت منافقا فهو في (الدرك الأسفل من النار)، كما قال الله -تعالى-: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (النساء:145)، والقرآن ذكر كثيرا من صفات المنافقين الظاهرة والباطنة وجاء ت هذه الآيات في صدر سورة البقرة وآل عمران والنساء والأنفال والأحزاب ومحمد والفتح والحديد والمجادلة والحشر والمنافقون والتوبة. قاطعني: – هل أنت حافظ للقرآن؟

  • كلا، ولكن أحفظ منه ما يكفي، تابعت حديثي:

والنبي -صلى الله عليه وسلم – بيّن صفات المنافقين وأخلاقهم وعبادتهم، كما في الحديث، عن أنس بن مقال – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فنقرها أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا» (مسلم)، والحديث الآخر أظنك تعرفه: «أربع من كن فيه…»، قاطعني:

  • نعم أعرفه، كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» (متفق عليه).
  • نعم، أحسنت، وهنا ينبغي بيان أن هذه تدخل في باب النفاق العملي (النفاق الأصغر)، وليس هو المقصود في الآية رقم 145 من سورة النساء، ولكن هذا النفاق الأصغر أيضا شأنه خطير؛ لأنه جسر إلى النفاق الأكبر الذي هو نفاق القلب، فيظهر الإسلام، والصلاة والصيام والتفقه، ويخفي في قلبه الكفر وكره الدين ومحاربة السنة؛ فالعبد الصالح يكره أن يتصف بصفات المنافقين، لا في عباداته ولا أخلاقه، وفي الحديث، قال – صلى الله عليه وسلم -: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين -يعني المترددة الحائرة- تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة لا تدري أيهما تتبع» (مسلم- أحمد). كان صاحبي منصتا، لا أدري إنصات تدبر أم إنصات إنكار! قررت أن أكمل بياني، إقامة للحجة وأداء للأمانة.

– لذلك وصف إمراء بالنفاق لا يملكه أحد، حتى النبي – صلى الله عليه وسلم -، لم يكن يعرفهم بأسمائهم إلا أن عرفه الله إياهم كما قال -تعالى-: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} (محمد:30)، والنبي – صلى الله عليه وسلم – أعلمهم أمين هذه الأمة حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه -، فأتاه عمر – رضي الله عنه – واستحلفه أن يخبره إن كان النبي – صلى الله عليه وسلم – قد سماه معهم! وهذا من باب عدم تزكية النفس، فقال حذيفة – رضي الله عنه -: كلا ولا أقولها لأحد بعدك! والرسول – صلى الله عليه وسلم – كان يعاملهم معاملة المسلمين حتى بعد موتهم أتاه الأمر من الله -تعالى- كما في الحديث:  قام النبي – صلى الله عليه وسلم – ليصلي على رأس النفاق عبدالله بن أبي ابن سلول، جذبه عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بثوبه، وقال: لا تصل عليه يا رسول الله! أنسيت ما صنع؟! لقد صنع كذا في يوم كذا، وكذا في يوم كذا، وجاذب عمر – رضي الله عنه- ثوب الرسول – صلى الله عليه وسلم – فجذب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثوبه وقال: «دعني يا عمر؛ فلقد خيرني الله -جل وعلا- بين أن أستغفر لهم أو لا أستغفر لهم»، ثم صلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – على رأس النفاق، وينزل القرآن على الحبيب – صلى الله عليه وسلم – موافقاً لرأي عمر – رضي الله عنه -، وهو قول الله -جل وعلا-: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (التوبة:84). يقول ابن القيم: «هم أخبث بني آدم وأقذرهم وأرذلهم، آذوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه أذية شديدة، فعابوا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قسمته وسخروا بصحابته، وهزئوا بالمتصدقين منهم، ورجع رأسهم عبدالله بن أبي يوم أحد بثلث الجيش والمسلمون في أحوج ما يكونون للعدد والعدة. وهم الذين أثاروا الفتنة على أمير المؤمنين عثمان – رضي الله عنه -، وحرَّضوا عليه غوغاء الناس ودهماءهم، حتى قتل شهيدا صابرا محتسبا، كما وصاه النبي –  صلى الله عليه وسلم – بقوله: «يا عثمان، إن الله مُقمّصك قميصا، فإن أرادَك المنافقون على خلعه، فلا تخلعه حتى تلقاني» (أخرجه أحمد والترمذي بسند صحيح). وهم الذين كانوا وراء حادثة الإفك الشهيرة التي أرادوا من ورائها تشوية بيت النبوة الشريف. ومن خطورة هذا النفاق الأصغر: أنه سُلّم وجسر إلى النفاق الأكبر، إذا استمر صاحبه على أخلاق المنافقين، وأكثر من شعب النفاق ولم يدعها، يخشى عليه أن يسلب الإيمان عند الموت، ويختم له بخاتمة سيئة. كما ثبت في (الصحيح): «إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنَّة، ثم يختم له عمله بعمل أهل النار». وقد بينت الرواية الأخرى في (الصحيح»): أن عمله بعمل أهل الجنة ذاك، إنما كان فيما يبدو للناس.