منذ توفيت والدته، أصبح صاحبي يذهب إلى المقبرة مرتين في الأسبوع، إحداهما يوم الجمعة بعد الصلاة مباشرة، يزور أمه، يدعو لها، ومنذ أحد عشر شهرا وهو على هذا الأمر. – جزاك الله خيرا وأثابك على برك لوالدتك. – أشعر أني لم أبرها كما ينبغي في حياتها، لم أكن أزورها إلا مرة في كل أسبوع، أجلس عندها مع إخوتي ثلاث ساعات، مع أن بيتها لا يبعد إلا خمس دقائق عن بيتي، إلا حال مرضها، كنت آتيها كل يوم. – أظن أنها كانت راضية عنك في حياتها؟ كنت أكثر إخوتك عطاء لها، واستجابة لرغبتها. قاطعني. – الموضوع ليس استجابة أو تلبية رغبات، ولكن المبادرة لإعطائها الأمان والطمأنينة وراحة البال، وإسعادها، لدي شعور أني لم أكن أبرها كما ينبغي، وأسأل الله أن يغفر لي ذلك، وها أنا ذا لا أنفك أدعو لها في كل ركعة من كل صلاة، وأزورها مرتين كل أسبوع. في المقبرة رأيت أحدهم، يرش (ماء الورد) على القبر، ويغرس شتلة ريحان، أردت أن أحدثه، منعني صاحبي. في طريق عودتنا إلى المركبة، سألته: – لماذا منعتني من نصح ذاك الرجل؟ – لأنه كان سيؤذيك برده عليك، هذا ديدنه منذ أشهر، تحدثت إليه مرة، فنهرني، ووصفني بالمتشدد والمتعصب والجاهل، فانسحبت بهدوء، أظنه يكرر عمله كل أسبوعين. – هذا نوع من الكبر، كما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «الكبر بطر الحق، وغمط الناس» (مسلم)، بمعنى أن الكبر يكون في هذين الأمرين، رد الحق، والتعالي على الناس، كلاهما كبر في القلب، أما المؤمن فإنه يخضع للحق، وإن كرهه، ولا يرى أنه أفضل من أحد. – عامة الناس لا يعرفون هذه القضايا، ويتصرفون وفق خلفياتهم وأفكارهم وأخلاقهم. – يأسف المرء على من يضيع عمره وهو لا يعرف سبيل النجاة من النار وسبيل دخول الجنة. بلغنا مركبتنا، كنت أتولى القيادة. – وهل التواضع عمل قلبي أم من أخلاق المسلم؟ – التواضع يبدأ في القلب، وينعكس أثره على أخلاق العبد وتصرفاته. هلا بحثت لنا عن بعض الأحاديث والآيات؟ وبالفعل قام صاحبي بالبحث في هاتفه، وأخذ يقرأ. يقول -تعالى- واصفا عباده: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (الفرقان)، هونا، الرفق واللين. عقبت: – هذا تصرف وخلق ناتج عن التواضع في القلب. – إليك هذا الحديث: عن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو تحرم عليه النار؟ تحرم على كل قريب هين لين سهل» (رواه الترمذي- صحيح لغيره. الألباني). ويقول -تعالى- في الخضوع للحق واتباعه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} (الأحزاب:36). وهذه الآية نزلت في زينب بنت جحش -رضي الله عنها- وهي ابنة عمة النبي – صلى الله عليه وسلم – فظنته أنه يريدها لنفسه، فلما علمت أنه يخطبها لزيد بن حارثة، كرهت وامتنعت لفرق النسب، فقد كان زيد بالأمس عبدا، فنزلت هذه الآية، فرضيت، وقيل: إنها نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، والشاهد أن قلب المؤمن ينبغي أن يتواضع لأمر الله -عز وجل-، ويخضع له، ولا يرفض الحق، وإن كان يخالف هواه، هذا هو التواضع، وإلا وقع في القلب (الكبر)، ويقول – صلى الله عليه وسلم -: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» مسلم. – هذه تحتاج إلى تربية قلبية. – نعم هي كذلك، أن يخضع القلب لأمر الله، يؤدي ما يجب عليه ويمتنع عما نهي عنه، ويقدم أمر الله على رأيه وسنة النبي – صلى الله عليه وسلم – على هواه، هذا هو أصل التواضع، والأصل الثاني ألا يرى أنه خير من أحد، كما في حديث النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إن الله أوحى إلي أن تواضعوا؛ حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد» (مسلم)، وأغلب الناس يرى أنه خير من غيره، بنسبه أو عشيرته أو ماله أو علمه أو دينه، وهذا من محبطات العمل والعياذ بالله. والتواضع المحمود على نوعين:

  • النوع الأول تواضع العبد عند أمر الله امتثالا، وعند نهيه اجتنابا؛ فإن النفس لطلب الراحة تتلكأ في أمره، فيبدو منها نوع إباء وشراد هربا من العبودية وتثبت عند نهيه طلبا للظفر بما منع منه، فإذا وضع العبد نفسه لأمر الله ونهيه فقد تواضع للعبودية.
  • والنوع الثاني تواضعه لعظمة الرب وجلاله وخضوعه لعزته وكبريائه؛ فكلما شمخت نفسه، ذكر عظمة الرب -تعالى- وتفرده بذلك وغضبه الشديد على من نازعه ذلك، فتواضعت إليه نفسه وانكسر لعظمة الله قلبه واطمأن لهيبته، وأخبت لسلطانه فهذا غاية التواضع وهو يستلزم الأول من غير عكس، والمتواضع حقيقة من رزق الأمرين والله المستعان.

والفرق بين التواضع والمهانة، أن التواضع يتولد من بين العلم بالله -سبحانه- ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله، ومن معرفته بنفسه وتفاصيلها وعيوب عملها وآفاتها فيتولد من بين ذلك كله خلق هو التواضع وهو انكسار القلب لله، وخفض جناح الذل والرحمة بعباده، فلا يرى له على أحد فضلا ولا يرى له عند أحد حقا، بل يرى الفضل للناس عليه والحقوق لهم قبله، وهذا خلق إنما يعطيه الله -عز وجل- من يحبه ويكرمه ويقربه. وأما المهانة فهي الدناءة والخسة وبذل النفس وابتذالها في نيل حظوظها وشهواتها، كتواضع السفلة في نيل شهواتهم وتذلل طالب كل حظ لمن يرجو نيل حظه منه، فهذا كله ضعة لا تواضع، والله -سبحانه- يحب التواضع ويبغض الضعة والمهانة.