في زيارة قصيرة إلى الشارقة، واعتاد صاحبي أن يذهب مرة كل شهر، بعد أن اشترى شقة صغيرة، يتابع إنشاءها. – الجميل في هذه الإمارة -فضلا عن كل شيء آخر- كثرة مساجدها وسمع الأذان والصلاة الجهرية، أينما كنت. – صدقت يا (أبا أحمد)، يشعر المرء براحة نفسية في هذه الإمارة، أدينا صلاة العصر في أحد المساجد، واستقبلنا الإمام بوجهه بعد الصلاة، وضع حامل الكتب الذي بجانبه أمامه، وأخذ يقرأ من كتاب، لم أتبين عنوانه، تبادلت النظر وصاحبي، اتفقنا أن نمكث قليلا نستفيد مما نسمع. «المراقبة التي هي من أعلى أعمال القلوب هي التعبد لله باسمه (الرقيب)، واسمه (الشهيد)، -سبحانه-، فمتى علم العبد أن حركاته الظاهرة والباطنة قد أحاط الله بعلمها، واستحضر هذا العلم في كل أحواله، أوجب له ذلك حراسة باطنة عن كل فكر وهاجس يبغضه الله، وحفظ ظاهره عن كل قول أو فعل يسخط الله، وتعبد بمقام الإحسان؛ فعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه، فإنه يراه. لم يطل الإمام في خاطرته، خرجنا بعدها أنا وصاحبي. – كانت خاطرة جميلة، مفيدة يحتاجها المرء ليجدد إيمانه، ويرقق قلبه. دعني أبحث لأعرف الكتاب الذي كان يقرأ منه. أخرج صاحبي هاتفه، في أقل من نص دقيقة وجد المصدر. – عنوان الكتاب (إصلاح القلوب) والكاتب هو (عبدالهادي بن حسن وهبي). – كنت أظن دون شك أنه من كتاب مدارج السالكين لابن القيم -رحمه الله. – وكان ظني أيضا كذلك. – وماذا يقول ابن القيم عن المراقبة؟ رجع صاحبي إلى هاتفه، بينما أخذت مكاني خلف مقود المركبة. – إليك مقتطفات من كتب ابن القيم، في المراقبة: «مقام المراقبة جامع للممعرفة مع الخشية فبحسبهما يصح مقام المراقبة»، «المراقبة: دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق -سبحانه وتعالى- على ظاهره وباطنه فاستدامته لهذا العلم واليقين: هي المراقبة وهي ثمرة علمه بأن الله -سبحانه- رقيب عليه ناظر إليه، سامع لقوله ومطلع على عمله كل وقت وكل لحظة وكل نفس وكل طرفة عين». – تعريف جامع مانع، رحم الله ابن القيم. هكذا كان ردة فعلي بعد سماع ما قرأ صاحبي. – تابع وأمتعنا بهذا الكلام الطيب. – «فمن راقب الله في سره: حفظه الله في حركاته سرا وعلانية، والمراقبة هي التعبد بأسماء الله (الرقيب) (الحفيظ) (العليم) (السميع) (البصير)، فمن أحصى هذه الأسماء (عقلها وتعبد بمقتضاها)، حصلت له المراقبة». كما في الحديث «اعبد الله كأنك تراه»، فهذا مقام المراقبة الجامع لمقامات الإسلام والإيمان والإحسان، ثم قال: «فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، فنزل به عند العجز عن المقام الأول إلى المقام الثاني وهو العلم باطلاع الله عليه ورؤيته له ومشاهدته لعبده في الملأ والخلاء». أغلق صاحبي صفحة كتب ابن القيم، وانتقل إلى صفحة الخرائط ليدلنا على أفضل الطرق للوصول إلى موقع شقته. – من الأمور التي تعجبني في هذا البلد التزام الجميع بقوانين المرور؛ فلا يشعر المرء بالضغط النفسي والعصبي في أثناء القيادة. – هذه ثقافة مجتمعية ينبغي أن توجد في المجتمع كله. – لنرجع إلى موضوعنا، (المراقبة). – من الآيات المبينة لهذا الأمر قوله -تعالى-: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} (الأحزاب:52)، ويقول -سبحانه-: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} (البقرة:235). ويقول -عز وجل-: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (الحديد:4}. ويقول -عز وجل-: {وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (المجادلة:7). وآيات كثيرة.. يخبر فيها الله -عز وجل- أنه مطلع ويسمع ويبصر ويعلم أفعال العباد الظاهرة والباطنة. – صدق الله، وما ترادف الذنوب وتتابع المعاصي إلا من إغفال القلب عن المراقبة، وأصل ذلك كله، حب الدنيا، وغلبة الهوى على القلب، وإيثار العاجل الزائل على الآجل الدائم. وحتى يصل العبد إلى مقام المراقبة، يحتاج أمورا، أولها العلم بأسماء الله وصفاته، واستحضار ذلك دائما بذكر الله، ذكرا يتحرك به اللسان، ويتفاعل معه القلب، ذكرا يبعد الشيطان، ويخمد لهيب الشهوة، وأداء الواجبات رغبة بما عند الله، ورهبة من عذاب الله، والصحبة الصالحة تعين على ذلك، ثم الدعاء، فإن الدعاء خير معين على نيل المطالب. – وإذا وقع في الغفلة بعد ذلك؟ – «كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون»، هذا شعار العبد المؤمن، كما قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف:201). والعبد في حياته، يجمع الحسنات، ويقع في السيئات ولكنه يرجع ويتوب إلى الله -تعالى- دائما، وإليك آخر ما ظهر لي من الهاتف: الإحسان وهو مشهد المراقبة، وهو أن يعبد الله كأنه يراه، وهذا المشهد إنما ينشأ من كمال الإيمان بالله وأسمائه وصفاته، حتى كأنه يرى الله -سبحانه- فوق سمواته مستويا على عرشه، يتكلم بأمره ونهيه، ويدبر أمر الخليقة؛ فينزل الأمر من عنده ويصعد إليه، وتعرض أعمال العباد وأرواحهم عند الموافاة عليه؛ فيشهد ذلك كله بقلبه، ويشهد أسماءه وصفاته، ويشهد قيوما حيا سميعا بصيرا عزيزا حكيما آمرا ناهيا، يحب ويبغض، ويرضى ويغضب، ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وهو فوق عرشه لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد ولا أقوالهم ولا بواطنهم، بل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ومشهد الإحسان أصل أعمال القلوب كلها؛ فإنه يوجب الحياء والإجلال والتعظيم والخشية والمحبة والإنابة والتوكل والخضوع لله -سبحانه- والذل له، ومقام المراقبة جامع للمعرفة مع الخشية فبحسبهما يصح مقام المراقبة.