اعتاد إمامنا أن يكتب أسبوعيا وبالتحديد كل يوم سبت، حديثا على اللوحة البيضاء المعلقة على الحائط الأيمن من حرم المسجد؛ لأن معظم المصلين يدخلون من هذه الجهة، دخلت وصاحبي؛ فلفت نظرنا الحديث، عن ربيعة بن كعب الأسلمي – رضي الله عنه – قال: «كنت أبيت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي – صلى الله عليه وسلم -: سل يا ربيعة! فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال – صلى الله عليه وسلم -: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك، قال – صلى الله عليه وسلم -: فأعني على نفسك بكثرة السجود». (رواه مسلم). علق صاحبي: حديث جميل، ويمكن أن نربطه بحديث النبي – صلى الله عليه وسلم -: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء» (مسلم). أدينا سنة المغرب، والفرض، ثم السنة البعدية، أخذنا مجلسينا في الزاوية اليسرى من المسجد؛ حيث يمكننا انتظار الصلاة الأخرى في مجلس مريح. – لنرجع إلى حديثنا. – حديث السجود؟ – نعم. – يقول ابن القيم عن هيئة السجود: «هو مقام ذل وانكسار بين يدي الله -عز وجل»؛ حيث يمرغ العبد أكرم ما فيه بالتراب. ويضع أعلى ما فيه على الأرض (جبهته)، تعبيرا عن صدق العبودية والتذلل، ثم تعال نتدبر أذكار السجود. – سبحان ربي الأعلى، (مسلم). – سبحان قدوس رب الملائكة والروح (مسلم). – سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة (صحيح أبي داود). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «والعبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقارا إليه وخضوعا له: كان أقرب إليه، وأعز له وأعظم لقدره، فأسعد الخلق: أعظمهم عبودية لله..» (الفتاوى 1/39). انضم إلينا إمامنا بعد أن قضى حاجة أحد المصلين، وعادة ما يمكث في مجلسه حتى ينصرف الجميع، يجيب عن الأسئلة وطلبات المصلين عن المسجد والصلاة، بإدارته. – كنا نتحدث أنا وأبو بدر عن الحديث الجديد الذي كتبته، ابتسم (أبو عمر) إمامنا. – نعم، هذا من الأحاديث المحببة إلى قلبي، والعبادات كلها في تذلل إلى الله، ولكن بعض العبادات يظهر فيها التذلل أكثر من غيرها وأكثرها الصلاة، من التكبير إلى التسليم، وحتى في الصلاة بعض أركانها فيها التذلل أكثر من غيره، وأكثرها السجود. يقول ابن تيمية -رحمه الله-: «لفظ (السجود) يحمل غاية الذل والخضوع»، وذلك يحرم أن يسجد أحد لأحد وإن لم يكن قصده العبادة. في الحديث، عن عبدالله بن أبي أوفى قال: «لما قدم معاذ من الشام سجد بين يدي النبي – صلى الله عليه وسلم -: فقال له – صلى الله عليه وسلم -: ما هذا يا معاذ؟ قال أتيت من الشام فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك، فقال – صلى الله عليه وسلم -: فلا تفعلوا؛ فإني لو كنت آمرا أحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» حسن صحيح (الألباني). – أحسنت يا (أبا عمر)، بعض النفوس فيها من  التعالي على الخلق، والعجب، وربما يكبر قدر النفس عند العبد، حتى يرى نفسه متمكنا من كل شيء، قادرا على كل شيء، فتدخل فيه الوسوسة التي دخلت نفس نمرود: {قال أنا أحيي وأميت}! والحالة الفرعونية: {أنا ربكم الأعلى}؛ فينبغي على العبد أن يكسر هذا الجبروت الشيطاني من بدايته، فيجلس إلى الضعفاء، ويأكل مع الفقراء، ويعمل مع الخدم! حتى لا يتملكه العجب بنفسه وينسى أنه (عبد)، ويذكر الله -عز وجل- هذا الإنسان ببداية خلقه، {ألم نخلقكم من ماء مهين} (المرسلات:٢٠)، ماء مستقذر، يغتسل منه ويزبل رائحته الكريهة! وكما قيل: «أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين ذلك تحمل العذرة». أخذ صاحبي يبحث في هاتفه كعادته، عن أقوال (ابن القيم) -رحمه الله -دعوني أقرأ لكم ما قال شيخنا -رحمه الله-: «فإن تمام العبودية هو: بتكميل مقام الذل والانقياد، وأكمل الخلق عبودية: أكملهم ذلا لله، وانقيادا، وطاعة، والعبد ذليل لمولاه الحق بكل وجه من وجوه الذل، فهو ذليل لعزّه، وذليل لقهره، وذليل لربوبيته فيه وتصرفه، وذليل لإحسانه إليه، وإنعامه عليه؛ فإن من أحسن إليك فقد استعبدك، وصار قلبك معبدا له، وذليلا، تعبد له لحاجته إليه على مدى الأنفاس، في جلب كل ما ينفعه، ودفعه، ودفع كل ما يضر» (1/289) (مفتاح دار السعادة). – أراك لا ترتاح إلا أن تعرف ما قاله (ابن القيم)! – أعتقد أنه هو المرجع في (أعمال القلوب)، ولا أزكي على الله أحدا؛ فإنه بشر، فقد يخطئ أحيانا. استأذننا (أبو عمر)؛ ليجلس في مكتبه يراجع بعض شؤونه. تابعنا الحديث. – يقول الله -تعالى- في وصف أيوب: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (الأنبياء:83). وقال -سبحانه- عن زكريا: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (الأنبياء:90). وهؤلاء من الأنبياء أكمل الخلق، وهكذا العبد كلما ازداد ذلا لله ازداد قربا إليه. يقول ابن تيمية -رحمه الله-: «والمقصود هنا: الكلام أولا في أن سعادة العبد في كمال افتقاره إلى ربه، واحتياجه إليه، أي: في أن يشهد ذلك، ويعرفه، ويتصف معه بموجب ذلك، من الذل والخضوع والخشوع، وإلا فالخلق كلهم محتاجون، لكن يظن أحدهم نوع استغناء، فيطغى، كما قال -تعالى-: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى}» (مجمع الفتاوي ١/٥٠). ويقول -رحمه الله-: «إذا تبين هذا: فكلما ازداد القلب حبا لله: ازداد له عبودية، وكلما ازداد له عبودية: ازداد له حبا، وفضله عما سواه، والقلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل، فالقلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا ينعم، ولا يسر، ولا يلتذ، ولا يطيب، ولا يسكن، ولا يطمئن، إلا بعبادة ربه وحبه، والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات: لم يطمئن، ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه؛ من حيث هو معبودة، ومحبوبه، ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح، والسرور، واللذة، والنعمة، والسكون، والطمأنينة. وهذا لا يحصل له إلا بإعانة الله له؛ فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله، فهو دائما مفتقر إلى حقيقة: {إياك نعبد وإياك نستعين} (العبودية: ص٩٧). والعبد مفتقر إلى الله -تعالى- في كل شيء، في خلقه ووجوده وفي استمراره وحياته، وفي علومه ومعارفه، وفي هدايته وأعماله، وفي جلب أي نفع له، أو دفع أي ضرر له، وهذا هو معنى: لا حول ولا قوة إلا بالله».