– بعد انقضاء موسم الحج (١٤٤٤هـ)، اجتمعنا في ديوان (أبي سالم) الأقرب إلى المسجد بين العشاءين، كنا تسعة رهط، ثلاثة منا أدوا الفريضة، بعد المقدمات، بدأ (سعد) يحدثنا عن تجربته. – لقد كان الحج هذا العام أشد بكثير من العام الفائت، لدرجة أني أغمي علي في أثناء النفرة من عرفات. قاطعة أبو خالد. – لقد نبهناك يا سعد، أنك لم تأكل كما ينبغي، ولم تأخذ كفايتك من الراحة والنوم اليومين قبل عرفة، لا تأكل إلا ما تطبخ أو تشتري، تشك في كل ما يقدم لك، تظن ذلك من الورع واجتناب الحرام. تدخل إمام مسجدنا، وهو قريب من الجميع ولديه قبول لهدوئه، وعلمه، وحكمته. – وكيف يكون عدم الأكل من الآخرين ورعا يا (أبا أحمد)؟ هذا أقرب إلى التشدد، والتعنت الذي نهى عنه الرسول – صلى الله عليه وسلم – منه إلى الورع. عقب أبو خالد. – لقد أغمى عليه ونحن في طريقنا إلى القطار للانتقال من عرفة إلى مزدلفة، ولم يفق إلا في المركز الطبي بعد أن ارتاح ساعتين، وأعطيناه تمرات وسقيناه قليلا من الماء. – (الورع)، أمر جميل في دين الله، وكما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – في حديث أبي هريرة: «كن ورعا تكن أعبد الناس، وكن قنعا تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما، وأقل الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب» (صحيح لغيره -الألباني). وقال الحسن: مثقال ذرة من الورع خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة. ولكن يخطئ كثير من الناس في معرفة الورع، دعوني أقرأ لكم ما قال ابن القيم عن الورع: أخرج إمامنا هاتفه، بضعة لمسات على الشاشة: «والفرق بين الورع والزهد أن الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما يخشى ضرره في الآخرة، والقلب المعلق بالشهوات لا يصح له زهد ولا ورع، وأما تعريض الأمر والنهي للتشديد الغالي فهو كمن يوسوس في الوضوء متغاليا حتى يفوت الوقت، أو كمن يردد تكبيرة الإحرام إلى أن تفوته مع الإمام قراءة الفاتحة أو يكاد تفوته» (الفوائد). كان الخادم يقوم بواجب الضيافة، رغم إخطارنا أبا سالم ألا نريد سوى الماء، لقصر الوقت بين العشاءين! تابع إمامنا حديثه. – والورع ثلاث مراتب، ورع واجب وهو الابتعاد عن المحرمات، وورع مندوب، وهو البعد عن الشهوات، وورع فضيلة، وهو الكف عن كثير من المباحات، كما في حديث الحسن بن علي – رضي الله عنه –  قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» صححه الترمذي، وفي البخاري عندما رأي النبي – صلى الله عليه وسلم – تمرة،  قال: «لولا أني أخاف أن تكون صدقة لأكلتها»؛ ولذلك قالوا: «الخوف يولد الورع»؛ فالورع درجة محمودة في دين الله، ولكن الخطأ في فهم الورع والعمل به يورث تشددا في الدين منهيا عنه. عقب أبو سالم: – أظن حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – جامع مانع لهذا الأمر، ففي الصحيحين: عن النعمان بن بشير قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس؛ فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه..». – أحسنت يا أبا سالم، نعم هذا حديث عظيم في بيان أمر الورع والشبهات، وهناك حديث آخر عن سعد بن أبي وقاص أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة، وخير دينكم الورع، وفي رواية وملاك دينكم الورع» (صحيح الجامع)، والورع يشمل الورع في النظر والسمع واللسان والبطن والفرج والبيع والشراء، فلا يكاد يوجد شأن إلا ودخل الورع فيه، وفي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها-، في قصة الإفك أن النبي – صلى الله عليه وسلم – سأل زينب بنت جحش عنها، فقالت: «أحمي سمعي وبصري ما علمت إلا خيرا» قالت: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – فعصمها الله بالورع»، وفي صحيح البخاري عن عائشة -رضي الله عنها-: «كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوما بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ قال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية -وما أحسن الكهانة- إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده في فيه فقاء كل شيء في بطنه»! وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: «الورع  ترك ما يضر، ومن ذلك ترك الأشياء المشتبه في حكمها والمشتبه في حقيقتها فالأول اشتباه في الحكم، هل هو حرام أو حلال؟ والثاني اشتباه في الحال، فالإنسان الورع هو الذي إذا اشتبه الأمر عليه تركه إن كان اشتباها في تحريمه، وفَعَلَه إن كان اشتباها في وجوبه لئلا يأثم بالترك»، شرح رياض الصالحين، نظر إمامنا لساعة الحائط. – بقيت خمس عشرة دقيقة، لأذان العشاء، لمن يحتاج أن يجدد وضوءه، ودعوني أختم بحديث قتادة وأبي الدهماء أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إنك لا تدع شيئا لله -عز وجل- إلا أبدلك الله به ما هو خير لك منه» المسند – سنده صحيح على شرط مسلم (الألباني).