في إحدى زياراتي القصيرة إلى الشارقة، رافقني (أبو عبدالله)، وهو من محبي السفر في المركبة، وأنا أستثقل السفر بالمركبة، ولاسيما إذا لم تكن مدة السفر تزيد عن خمسة أيام. كانت رحلتنا بهذه المركبة ليوم واحد، غادرنا الثلاثاء ورجعنا الأربعاء، استأجرنا مركبة من المطار، وكالعادة بدأنا الرحلة بتناول الغداء في مركز التسوق الرئيسي في عجمان. – وهل يوصف القلب بالاستقامة؟ لأن الحديث الذي أعرفه  يرشد النبي – صلى الله عليه وسلم – أحد الصحابة، فيقول: «قل آمنت بالله، ثم استقم» كأنه يأمره بالتزام العمل الصالح. – تعني حديث سفيان بن عبدالله الثقفي: «أن رجلا جاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك، فقال – صلى الله عليه وسلم -: قل آمنت بالله ثم استقم، فقال الرجل: يا رسول الله، وما أخوف ما تخاف علي؟ فأشار أو أومأ إلى لسان نفسه» (مسلم). – نعم هذا الحديث. – في الشرح بيان بأن الاستقامة ثمرة للإيمان الصحيح، فلا استقامة نافعة إلا بعد الإيمان الصحيح، وهذا عمل قلبي، قال ابن رجب: «والاستقامة هي سلوك الصراط المستقيم وهو الدين القويم من غير تعويج عنه يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها: الظاهرة والباطنة وترك المنهيات كلها» انتهى كلامه. أحضر العامل غداءنا، وتابعنا حديثنا. – فالاستقامة، تعني السير على المنهج الصحيح دون إفراط ولا تفريط ودون زيادة أو نقصان، وإذا وقع العبد في تقصير، تاب ورجع إلى الصراط المستقيم. أما وصف القلب بالاستقامة فقد ورد في حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «لا يستقيم إيمان  عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه» (صحيح الترغيب)؛ فالقلب هو أساس الاستقامة، بأن يلتزم الصراط المستقيم، كما قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: «الاستقامة: أن تسقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعلب». – تشبيه جميل، وربما يمكننا أن نقرب المعنى لعامة الناس بأن تقول لأحدهم: ارسم لي خطا مستقيما، فإذا رسمه، قل هذه هي الاستقامة، دون اعوجاج، ولا دوران، بل التزام بالمنهج الصحيح الذي جاء من عند الله. – من أين أتيت بفكرة الخط المستقيم؟ أعجبتني!. – خطرت على بالي، وربطت بين أحرف (استقامة) و(خط مستقيم). – أحسنت! – دعني أقرأ لك بعض الآيات التي وردت في الاستقامة، يقول -تعالى-: {اهدنا الصراط المستقيم} (الفاتحة:6). ويقول -سبحانه-: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (هود:112). ويقول -عز وجل-: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ} (فصلت:6). ويقول -سبحانه-: {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا (16) لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} (الجن). ويقول -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (فصلت:3). وأخيرا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الأحقاف:13). قال أبو بكر الصديق – رضي الله عنه -: «فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة فلم يلتفتوا بقلوبهم إلى ما سواه لا بالحب ولا بالخوف ولا بالرجاء ولا بالسؤال ولا بالتوكل، بل لا يحبون إلا الله ولا يحبون معه أندادا ولا يحبون إلا إياه، لا لطلب منفعة ولا لدفع مضرة ولا يخافون غيره كائنا من كان ولا يسألون غيره..» مجموع الفتاوى ج 28 ص32. أنهينا غداءنا، وتوجهنا إلى مركبتنا، رفع أذان الظهر، نظرت إلى صاحبي، قررنا أداء الصلاة ثم متابعة بنود جدول أعمالنا. بعد الصلاة، وقد جمعنا العصر قصرا بعد صلاة الظهر، تامة. – الآية، من سورة هود: {فاستقم كما امرت}، سمعت أنها أشد آية نزلت على النبي – صلى الله عليه وسلم . – الرواية عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ما نزلت على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – آية هي أشد عليه من هذه الآية، ولذلك قال – صلى الله عليه وسلم -: «شيبتني هود وأخواتها». وفي رواية، عن الحسن أنه قال: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «شمروا شمروا.. وما رؤي ضاحكا بعدها». انطلقنا إلى منزلنا، لنأخذ الغرف، ونضع الأمتعة قبل أن نذهب إلى موعدنا في موقع البناء لنلتقي بمهندس المشروع الساعة الثالثة عصرا. إن الاستقامة تعنى: الاعتدال والتوازن، إنها في الحكمة والإصابة والسداد، والاستقامة مطلب نفيس وعظيم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «أعظم الكرامة لزوم الاستقامة». والاستقامة تحتاج إلى جهد وصبر ومجاهدة، وذلك بعد عون الله وفضله وتوفيقه؛ فهو -سبحانه وتعالى- الموفق لسلوك طريق الاستقامة، بل أمر عباده أن يسألوها ويطلبوها منه -عز وجل- في كل وقت، بأن يقول العبد في كل صلاة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة: 6). ويقول -سبحانه-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام: 153). فالمطلوب من العبد الاستقامة؛ فإن نزل عنها فالتفريط والإضاعة.. جاء في الحديث عن ثوبان قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن أفضل أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلَّا مؤمن» (صحيح ابن ماجه)، وقوله: «استقيموا، ولن تحصوا». أي: لن تطيقوا ولن تبلغوا كل الاستقامة، لكن على الإنسان المسلم أن يحاول، فإن لم يقدر على السداد فالمقاربة .. كما بين ذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الآخر بقوله: «سددوا ، وقاربوا، واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» (صحيح الجامع). فالاستقامة هي الاتباع لا الابتداع مع إخلاص القلب لله -عز وجل.