– من محاسن حضور الجماعة، سؤال الإخوة عنك إذا غبت عن  صلاتين أو ثلاث، على غير عادتك؛ لذلك عندما التقيت (أبا وليد) بعد غياب يومين عن صلاة الجماعة، صافحته بحرارة، وسألته عن السبب.

– الحمدلله، كل الأمور بخير -بفضل الله.

رافقني بعد الصلاة.

– بصراحة لا عذر لي في الغياب، ولكني شعرت أنني لا أخشع في صلاتي بالمسجد، فأصابني الكسل، وحديث نفس ووسوسة: بألا داعي للذهاب إلى المسجد؛ فكنت أصلي في البيت.

– أعلم ذلك، ولا عذر لي كما قلت لك، ولكن أود أن أصلي بخشوع، كما قال الله -تعالى-: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (المؤمنون).

– الخشوع عمل قلبي، يجتهد الإنسان في تحصيله، ويزيد وينقص، وربما يغيب أحيانا؛ ففي الحديث عن أبي ربعي حنظلة بن الربيع الأسيدي أحد كتاب النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «لقيني أبو بكر – رضي الله عنه – فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة يا أبا بكر، نكون عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين، فإذا رجعنا إلى الأزواج والضيعة نسينا كثيرا، قال: فوالله إنا لكذلك، انطلق بنا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فانطلقنا؛ فلما رآه فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما لك يا حنظلة؟ قال: نافق حنظلة يا رسول الله، قال : وما ذاك؟ قلت: نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين، فإذا رجعنا عافسنا الأزواج والضيعة ونسينا كثيرا، قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: لو تدومون على الحال التي تقومون بها من عندي، لصافحتكم الملائكة في مجالسكم، وفي طرقكم، وعلى فرشكم، ولكن يا حنظلة ساعةً وساعةً.. ثلاث مرات» رواه مسلم.

فالمسلم تتقلب حاله، من زيادة الإيمان والخشوع والتقوى وتنقص، ولكن لا يترك صلاة الجماعة؛ بزعم أنه لا يخشع فيها.

توقفنا عند مركبته.

– ما معنى الخشوع؟

–  لفظ (خشع) ورد في القرآن سبع عشرة مرة، جاء في خمسة عشر موضعا بصيغة الاسم، مثل قوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}، وجاء في موضعين بصيغة الفعل في قوله -تعالى-: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} (طه:108)، وقوله -تعالى-: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} (الحديد:16).

ولفظ (خشع) له أربعة معان:

– الأول: التصديق والتسليم، مثل قوله -تعالى-: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (البقرة:45).

قال الطبري: إلا على الخاضعين لطاعته، الخائفين سطواته، المصدقين بوعده ووعيده.

– الثاني: التواضع والخضوع، مثل قوله -تعالى-: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (الأنبياء:90). أي متواضعين خاضعين.

وقوله -عز وجل-: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} (القلم:43)، أي: خاضعة أبصارهم للذي هم فيه من الخزي والهوان.

– الثالث: التذلل: ومنه قوله -تعالى-: {الذين هم في صلاتهم خاشعون}، قال الطبري: خشوعهم فيها تذللهم لله فيها بطاعته وقيامهم بما أمرهم بالقيام به فيها.

– الرابع: سكون الجوارح، ومنه قوله -تعالى-: {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا} (طه:108)، عن ابن  عباس -رضي الله عنهما- قال: سكنت.

       والخشوع من آخر ما يتحصله العبد في العباد بعد مجاهدة، ولذلك يكون أول ما يفقده، كما قال حذيفة: أول ما تفقدون من دينكم الخشوع.

وقال الحسن البصري: الخشوع هو الخوف الدائم اللازم للقلب؛ لذلك اتفقوا أن الخشوع محله القلب.

       وخشوع كل عبد على قدر علمه بربه، ويتحصله الإنسان في الصلاة بحضور قلبه، فعلى قدر حضور القلب في القراءة بتدبر وتفكر، وفي الركوع، وفي السجود، يكون الخشوع: إذا استحضر العبد أنه إذا كبّر للصلاة فإنه يقف بين يدي الله (أي أمام الله -عز وجل).

       فإذا قال العبد الحمدلله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال الله: مجدني عبدي، وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله: هذه بيني وبين عبدي ولعبد ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال الله: هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل. (مسلم) عن أبي هريرة.

هذا في الفاتحة، وهكذا ينبغي أن يستحضر العبد قلبه، فيسمع ما يقرأ، فتدخل المعاني قلبه، ويتحصل الخشوع.

– أحيانا، يتصنع المرء هيئة الخشوع، وليس بخاشع!

نظرت إلى صاحبي مبتسما.

– ولماذا يتصنع الخشوع؟

لم انتظر إجابته، تابعت حديثي.

يقول الفضيل بن عياض: يكره أن  يرى على الرجل الخشوع أكثر مما في قلبه.

       ويقول ابن القيم -في الفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق-: «خشوع الإيمان هو خشوع القلب لله بالتعظيم والإجلال والوقار والمهابة والحياء؛ فينكسر القلب لله كسرة ملتئمة من الوجل والخجل والحب والحياء وشهود نعم الله؛ فيخشع القلب لا محالة؛ فيتبعه خشوع الجوارح، وأما خشوع النفاق فيبدو على الجوارح تصنعا وتكلفا، والقلب غير خاشع».

أردت أن أنهي الحديث ليذهب كل منا لحاجته.

– يا أبا وليد، حضور الجماعة، عمل جسدي، تسمع الأذان، فتتوضأ وتخرج من بيتك، وتأتي إلى المسجد فتصلي مع الإمام، هذه الأمور تجلب لك ما لا يحصى من تكفير السيئات وتكثير الحسنات، ورفع الدرجات، وبعد ذلك تتحصل على ما تريد من التقوى والخشوع والإنابة، إلى غير ذلك من أعمال القلوب، وفقني الله وإياك.