– يغمرني أحيانا شعور بأني أريد أن أكون وحدي بعيدا عن البشر وعن العمران، في الصحراء، أو في البحر، أذكر الله، (سبحان الله والحمدلله ولا إله إلا الله والله أكبر)، وأمجده (لا إله إلا الله وحده لا شريك له)، وأثنى عليه: (الحمدلله ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد -الحمدلله كثيرا- الحمدلله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه)، أشعر براحة قلبية، في هذه الأحوال، ولاسيما عندما تكون في الشوارع المزدحمة والأسواق المكتظة.

        يحتاج المرء بين فترة وأخرى أن يختلي بنفسه، ليعبد الله، فيذهب إلى العمرة منفردا، أو يقيم الليل بعيدا عن الناس ويأنس بالتقرب إلى الله.

كنت وصاحبي في طريق عودتنا من زيارة لأخ لنا في المشفى عدناه بعد صلاة العشاء، بناء على رغبته.

– الأنس بالله، من أعمال القلوب، يجد فيه العبد حلاوة الإيمان، وحلاوة مناجاة الله، وحلاوة الذكر والدعاء، والتضرع، كل شيء يصدر من القلب، ولعل هذا الشعور، هو الذي يبث الراحة في القلب، فيستشعر العبد قوله -تعالى-: {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} (هود:٦١)، وقوله -تعالى-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}، وقوله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (النمل:١٢٨)، معية تأييد وأنس وقبول.

– نعم، هذا العمل من أعمال القلوب، يبلغه العبد بعد منازل أخرى من الثقة، والطمأنينة، والتوكل، والإفاضة، فيستحضر العبد لطف الله، وإحسانه، مع تقصيره في حق ربه، فيتضرع ويناجي، ويلقي أثقال الدنيا، ويفرغ قلبه من هموم الحياة، ويملأه بذكر الله، والخوف من الله، وحب الله، والرغبة بما عند الله، والزهد في الدنيا، فينال من الأنس والأمان والطمأنينة ما لا يتحصله بأموال الدنيا كلها، أخذ صاحبي هاتفه.

– دعنى أبحث لك عن الأنس بالله من أقوال العلماء، في أقل من دقيقة، ظهرت نتائج البحث، وأخذ صاحبي يقرأ:

        قال ابن القيم -رحمه الله تعالى: «ومن علامات صحة القلب: ألا يفتر عن ذكر ربه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره، إلا بمن يدله عليه، ويذكره به، ويذاكره بهذا الأمر» انتهى (إغاثة اللهفان:ص72).

        فالأنس بالله -تعالى- حالة وجدانية تحمل على التنعم بعبادة الرحمن، والشوق إلى لقاء ذي الجلال والإكرام. قال أحد السلف: «مساكين أهل الدنيا، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله، والأنس به، والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره وطاعته».

        فالأنس بالله مقام عظيم من مقامات الإحسان الذي قال عنه النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الصحيح: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك». قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعليقا على الحديث-: فهذان مقامان أحدهما-: الإخلاص، وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه واطلاعه عليه وقربه منه.

       الثاني- أن يعمل العبد على مشاهدة الله بقلبه، وهو أن يتنور قلبه بنور الإيمان. ويتولد عن هذين المقامين: الأنس بالله، والخلوة لمناجاته وذكره، واستثقال ما يشغل عنه مخالطة الناس والاشتغال بهم؛ فمنزلة المراقبة إذا تحققت في العبد، حصل له الأنس بالله -تعالى-، ووجه ذلك أنه إذا حصلت المراقبة يحصل القرب من الرب -سبحانه-، والقرب منه -جلا وعلا- يوجب الأنس.

        قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: «والقريب يوجب الأنس والهيبة والمحبة» (مدارج السالكين). ويقول كذلك -رحمه الله-: «وقوة الأنس وضعفه على حسب قوة القرب، فكلما كان القلب من ربه أقرب، كان أنسه به أقوى، وكلما كان منه أبعد، كانت الوحشة بينه وبين ربه أشد» (انتهى) من (مدارج السالكين: 95/3).

       قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: «هذا الأنس المذكور مبدؤه التعبد بأسماء الله الحسنى التي يحصل عنها الأنس ويتعلق بها، كاسم الجميل، والبر، واللطيف، والودود، والحليم، والرحيم، ونحوها» (انتهى) (مدارج السالكين 419/2). والعبد إذا ارتقى بالعلم النافع والعمل الصالح إلى مقام الإحسان، واستقرت قدمه فيه، وأنس بالله -تعالى- والتذ بطاعته وذكره.

قال العلامة السعدي -رحمه الله مقررا ذلك في منظومته، واصفا أهل السير إلى الله والدار الآخرة-:

عبدوا  الإله على اعتقاد حضوره                         فتبؤوا في منزل الإحسان

       وهذه المنزلة من أعظم المنازل وأجلها، ولكنها تحتاج إلى تدرج «للنفوس شيئا فشيئا، ولا يزال العبد يعودها نفسه حتى تنجذب إليها وتعتادها، فيعيش العبد قرير العين بربه، فرحا مسرورا بقربه».

        ولذا فإن الأنس بالله -تعالى- ثمرة الطاعات والتقرب إلى رب الأرض والسماوات، كما قال ابن القيم -رحمه الله-: «فكل طائع مستأنس، وكل عاص مستوحش». (انتهى) (مدارج السالكين: 406/2).

        قال ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: «إنما يقع الأنس بتحقيق الطاعة؛ لأن المخالفة توجب الوحشة، والموافقة مبسطة المستأنسين! فيا لذة عيش المستأنسين، ويا خسارة المستوحشين!» (انتهى) من (صيد الخاطر: ص213).

        قيل للعابد الرباني وهيب بن الورد -رحمه الله-: «هل يجد طعم العبادة من يعصيه؟ قال: لا، ولا من يهم بالمعصية، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: «من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية».

إذا استغنى الناس بالدنيا، فاستغن أنت بالله، وإذا فرحوا بالدنيا، فافرح أنت بالله، وإذا أنسوا بأحبائهم، فاجعل أنسك بالله.