وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل

جاورني في رحلتي الأخيرة إلى لندن لزيارة حفيدتي (تاج)، ابتدرني بابتسامة لطيفة، وسرعان ما تعارفنا، وتآلفنا، بدأ الحديث:

– بعض المتدينين يتشددون مع من لا يتفق معهم؛ فيرمون هذا بالفسق، وتلك بالفجور، وذاك بالانحراف، وربما أطلقوا هذه الصفات علنا؛ ليسمعوا الطرف الآخر.

– إن الدعوة تحتاج إلى علم، وسعة صدر، وحلم، وحكمة، نعم أتفق معك أن بعض المتدينين يضرون أكثر مما ينفعون، ولكن أيضا يجب على كل مسلم أن ينكر المنكر بطريقة صحيحة وأنت تعرف الحديث.

       «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»، وفي رواية: «وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» (مسلم).

– دعني أكون صريحا واضحا، أنا أعرف الكثير من الملتزمين بالصلاة في المساجد، المتبعين لهدي النبي –  صلى الله عليه وسلم – في السنن، وكذلك أعرف كثيرا من الذين لا يصلون، وأحضر مجالس هؤلاء وهؤلاء، وربما حضرت مجلسا، يدار فيه الخمر أحيانا.. مع أني أكره هذه المجالس، ولكن من باب صلة الرحم؛ لأنهم من أقربائي، قاطعته.

– هل تعرف أين المشكلة يا (أبا فواز)، المشكلة أن يتعود القلب على المنكر، فلا ينكره، ولا يكرهه، وهذا عمل قلبي خطير، ألا ينكر القلب المنكر؛ ففي الحديث، قطع المضيف حديثنا ليعطينا المناشف الساخنة المنعشة.

تابعت حديثي:

– أقول في الحديث، عن حذيفة، قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى يصير على قلبين: أبيض بمثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه» (رواه مسلم).

       فالعبد ينبغي أن يدرب قلبه دائما على إنكاره للمنكر وكرهه وبغضه والابتعاد عنه؛ لأن كثرة التعرض للمعاصي والرضا بها يميت القلب، ويذهب الإيمان، ومن علامات الإيمان ألا يكون المسلم في مجلس يدار فيه الخمر، والحديث صريح في ذلك.

عن عمر – رضي الله عنه – قال: «أيها الناس إني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يقول: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدن على مائدة يدار عليها الخمر».

استوقفني

– هل هذا الحديث صحيح؟

– نعم هذا الحديث ورد في مسند الإمام أحمد والترمذي والنسائي وصححه العلامة الألباني.

– لم أكن أعرفه.

– الشاهد أن المرء ينبغي ألا يألف المنكر، ويتعود عليه، بل يذكر نفسه، أن هذا المنكر معصية لله -عز وجل-، ويكره هذا المنكر، وإن كان صاحب سلطة، يزيله، وإلا فلبسانه ينكره دون أن يوقع ضررا أكبر منه، وإلا فبقلبه، ويتحول عن المكان الذي يقع فيه، ويكره هذا المنكر.

بل من صفات المؤمنين حبهم للإيمان والطاعات وكرههم للمعاصي، كما قال -تعالى في سورة الحجرات-:

       {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}.

       أي جعل الإيمان بما فيه من عقيدة وعمل، محبوبا إلى قلوبكم (وزينه)؛ بحيث لا تتركونه، بل تقومون به وأنتم راغبون فيه، مقبلون عليه بقلوبكم، قال ابن مسعود – رضي الله عنه -: «هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر».

– آية جميلة، كأني أسمعها أول مرة؛ لأنها أتت في صياغ عمل القلب، نعم كل الفطر السليمة تحب الإيمان وأعمال الإيمان، والصلاح من صلة الرحم، والإصلاح بين الناس والإحسان إلى المحتاجين، والصلاة، والصيام، وقراءة القرآن، إنها نعمة عظيمة من الله أن حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا.

– نعم، هي كذلك فضل من الله، ونعمة، وأذكر حديثا آخر للتو حضرني، وهو في صحيح مسلم، عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل»

– أحاديث لم أعرفها من قبل، وكنت أظن أني ملم بمعظم الأحاديث لاطلاعي الدائم وثقافتي الإسلامية.

– من شيمة العلماء، كما قال الشافعي: كلما ازددت علما ازددت علما بجهلي.

 استدرك علي مقالتي.

– هذا شطر من بيت شعر للشافعي يقول فيه:

كلما أدبني الدهر

                                              اراني نقص عقلي

وكلما ازددت علما

                                               ازددت علما بجهلي

– هذه أول مرة أسمع هذا البيت من الشعر كاملا.