{أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}

      يصف النبي حال العبد إذا تلبس بالمعصية، يقول – صلى الله عليه وسلم -: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم وهو مؤمن» (متفق عليه). فحال تلبسه بالمعصية ينزع ثوب الإيمان ويغيب عنه نظر الله إليه، فيقع في معصية ربه، مستخدما نعم ربه وتحت نظر ربه!

– إن مسألة (الحياء من الله)، تلامس القلوب مباشرة دون أن تمر على العقل أو الفكر، فتطرق الرؤوس، وتنكر العيون، وتتلون الوجوه، إذا حقق العبد (الحياء من الله)، وإن كان من أصحاب الطاعات.

– ماذا تقصد بالعبارة الأخيرة؟

كنت وصاحبي نقرأ جزءا من (مدارج السالكين) للإمام ابن القيم.

– دعني أضرب لك مثلا -ولله المثل الأعلى- ماذا يكون موقفك من خادمك الذي أكرمته وألبسته وأسكنته وأطعمته، أفضل مما يستطيع أن يفعل لنفسه، حين تراه مقصرا فيما طلبت منه؟ وأشد من ذلك إذا رأيته يستغل نعمتك عليه، فينتهك بها حرماتك؟!

– أول عبارة ستقولها له: «ألا تستحيي؟».

– الله -سبحانه- أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، ما نحتاج وما لا نحتاج: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}. ونحن نستعمل عافيتنا وأموالنا ووقتنا -وكلها نعم من الله- في معصية ربنا، وتحت نظر ربنا -عز وجل-، وحتى إن لم نكن نعصيه، نقصر في عبادته، فلا نصلي كما يجب، ولا نصوم كما يرضى، ولا نتعامل كما أمرنا، ولا نقرأ كتابه كما يجب، وهكذا.

       إنه ذلك الشعور (بالتقصير تجاه الله -تعالى-، مع استحضار نعم الله). يقول الجنيد: «الحياء من الله يتولد من مشاهدة النعم ورؤية التقصير». ويقول ابن عطاء: «ما نجا من نجا إلا بتحقيق الحياء من الله».

      انضم إلينا مؤذننا (أبو صالح)، عُين في مسجدنا منذ شهر تقريبا يمتعنا بأذانه؛ لأنه يذكرك بأذان المسجد الحرام في مكة، دعني أقرأ لك شيئا من كتابنا. وقد قسم الحياء على عشرة أوجه: حياء جناية، وحياء تقصير، وحياء إجلال، وحياء كرم، وحياء حشمة، وحياء استصغار للنفس واحتقار لها، وحياء محبة، وحياء عبودية، وحياء شرف وعزة، وحياء المستحيي من نفسه، فأما حياء الجناية: فمنه حياء آدم -عليه السلام- لما فر هاربا في الجنة قال الله -تعالى-: أفرارا مني يا آدم؟ قال: لا يا رب بل حياء منك. وحياء التقصير: كحياء الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فإذا كان يوم القيامة قالوا: سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك. وحياء الإجلال: هو حياء المعرفة، وعلى حسب معرفة العبد بربه يكون حياؤه منه. وحياء الكرم: كحياء النبي  صلى الله عليه وسلم حين دعا القوم إلى وليمة زينب، وطولوا الجلوس عنده؛ فقام واستحيا أن يقول لهم: انصرفوا. وحياء الحشمة: كحياء علي بن طالب – رضي الله عنه – أن يسأل رسول الله عن المذي لمكان ابنته منه. وحياء الاستحقار واستصغار النفس: كحياء العبد من ربه -عز و جل- يسأله حوائجه احتقار الشأن نفسه واستصغارا لها، وفي أثر إسرائيلي إن موسى -عليه السلام- قال: يا رب إنه لتعرض لى الحاجة من الدنيا فأستحيي أن أسألك؛ فقال الله تعالى: سلنى حتى ملح عجينتك وعلف شاتك. وقد يكون لهذا النوع سببان أحدهما: استحقار السائل نفسه واستعظام ذنوبه وخطاياه، والثاني: استعظام مسؤوله. وأما حياء المحبة: فهو حياء المحب من محبوبه حتى، إنه إذا خطر على قلبه في غيبته هاج الحياء من قلبه، وأحس به في وجهه، ولا يدرى ما سببه؟. وأما حياء العبودية: فهو حياء ممتزج من محبة وخوف ومشاهدة عدم صلاح عبوديته لمعبوده، وأن قدره أعلى وأجل منها؛ فعبوديته له توجب استحياءه منه لا محالة. وأما حياء الشرف والعزة فحياء النفس العظيمة الكبيرة إذا صدر منها ما هو دون قدرها من: بذل أو عطاء وإحسان؛ فإنه يستحيي مع بذله حياء شرف نفس وعزة.

      وأما حياء المرء من نفسه: فهو حياء النفوس الشريفة العزيزة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص، وقناعتها بالدون، فيجد نفسه مستحيا من نفسه حتى كأن له نفسين يستحيي بإحداهما من الأخرى، وهذا أكمل ما يكون من الحياء؛ فإن العبد إذا استحيا من نفسه فهو بأن يستحيي من غيره أجدر.

– هذا تفصيل دقيق جميل للحياء، ولاسيما الجزء الأخير (حياء المرء من نفسه).

– نعم، يحتاج المرء أن يذكر نفسه بهذا العمل القلبي الجليل، وألا يفارقه أبدا، وإن غفل عنه أحيانا، يرجع ويذكر نفسه، ليستحيي من الله، ويتذكر ألا يكون حيث نهاه الله، ولا يغيب حيث أمره الله.

– وإليك هذا الحديث.

– عن عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «استحيوا من الله حق الحياء، قال: قلنا: يا نبي الله، إنا لنستحيي والحمدلله، قال: ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء، أن تحفظ الرأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء» (حسن لغيره -الألباني).