(الخوف المقرون بالمعرفة والسكون، هو الخشية)

– قرأ إمامنا آيات من سورة (تبارك)، وهي من السور التي يكررها كثيرا إمامنا في الصلاة حتى حفظها بعضنا من قراءاته، وورد قول الله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (الملك:12).

وبعد الصلاة، استأذننا أن  يلقي خاطرة قصيرة عن هذه الآية، بقي كل المصلين تقريبا في أماكنهم.

– في هذه الآية وعد جميل «للذين يخشون ربهم بالغيب»، والخشية تختلف عن الخوف، ذلك أن الخوف هروب وانتقال من المخوف، والخوف قد يكون من أي شيء وإن كان مجهولا للعبد، أما الخشية فلا تكون إلا مع العلم، ونتيجتها السكون والاستقرار، يقول ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين، وأخذ إمامنا ينقل لنا النص كما ورد في الكتاب، من هاتفه الذكي:

«الخوف: اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوّف، وقيل الخوف هروب القلب من حلول المكروه عند استشعاره، والخشية أخص من الخوف؛ فإن الخشية للعلماء بالله كما قال -تعالى-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر:28)، فهي خوف مقرون بمعرفة.

وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إني أتقاكم لله وأشدكم له خشية»؛ فالخوف حركة والخشية انجماع وانقباض».

بعد الخاطرة، جلسنا في مكتبة المسجد مع إمامنا.

– لم تذكر حكم الأحاديث التي ذكرتها في خاطرتك يا شيخ، وليست هذه عادتك.

ابتسم (أبو أحمد).

– صدقت، ذلك أني لم أكن أنوي إلقاء هذه الخاطرة ولكن الآيات التي قرأتها دفعتني، لنبحث عن تخريج الأحاديث، وبالفعل كان الأمر يسيرا.

– حديث «إني أتقاكم لله» ورد في حديث الثلاثة الذين قال أحدهم: إنه يقوم الليل فلا ينام والآخر يصوم الدهر فلا يفطر، والثالث الذي اعتزل الناس، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – لهم: «إنما أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له..» صححه الألباني.

وفي البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا».

تابع الشيخ:

– الخشية عمل قلبي وطاعة عظيمة لله -عز وجل- تبدأ بالقلب، ويظهر أثرها على الجوارح، والخشية تبعث في العبد مراقبة الله -عز وجل-، وكلما كان العبد أكثر علما ومعرفة بالله، اشتدت خشيته من الله.

وفي سورة البينة يقول الله -تعالى- عن المؤمنين:

     {جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (البينة:8).

عقب (أبو ياسر) على مقولة الشيخ:

– وهناك فرق آخر بين الخوف والخشية، ذلك أن الخوف يقع عادة بعد الوقوع في معصية، وتذكر العقاب، وربما يختفي الخوف، أما الخشية فهي عمل قلبي دائم، لا ينبغي أن يفارق قلب العبد المؤمن.

أعجبني تعليق أبي ياسر.

– ولذلك كانت الخشية من صفات العلماء والأولياء الصالحين. وماذا عن قول الله -تعالى- عن موسى وفرعون: {وأهديك إلى ربك فتخشى}؟

هذه نجدها في كتب التفسير، ولحظات كانت جاهزة.

– أي أعلمك وأرشدك إلى الله، كما ورد في الآيات الأخرى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ} (الشعراء).

{قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى} (طه)، فهذه الآيات وغيرها، يعلم موسى فرعون بالله -عز وجل-، لعله يخشى بعد العلم.

– ووردت مادة (خشي) ثماني وأربعين مرة، من ذلك قوله -تعالى-:

محبذا ومحببا للخشية منه -تعالى-: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (البقرة:150).

وقال في مقام الذم لمن يخشى الناس كخشية الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} (النساء:77).

وآيات أخرى وردت فيها الخشية: {إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} (طه:3).

{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه:44).

     {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر:28). {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} (النازعات:26). {وهو يخشى} (عبس:9). {سيذكر من  يخشى} الأعلى:10). {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (التوبة:18). {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} (الأنبياء:49). {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (النور:52).

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (لقمان:33).

{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} (الرعد:21).

فصاحب الخوف يلتجئ إلى الهروب، والإمساك، وصاحب الخشية يلتجئ إلى الاعتصام بالعلم، ومثلهما مثل من لا علم له بالطب، ومثل الطبيب الحاذق، فالأول يلتجئ إلى الحمية والهرب، والطبيب يلتجئ إلى معرفته بالأدوية والأدواء.

والعبد يحتاج إلى الخوف، والخشية، ومن بلغ منزلة الخشية، فقد ملأ الخوف قلبه سابقا.