التوبة هي أول الأعمال  وآخرها وهي في كل مقام مستصحبة

     أديت صلاة الظهر في المسجد الملاصق للمقبرة، قدر الله أن تكون هناك جنازة، على غير المعتاد، صليت عليها، وتبعتها، وانتظرت حتى انتهى دفنها، (رجاء القيراطين). في طريق عودتي إلى المركبة، صادفت صاحبي، دون سابق موعد.

– قرأت كلاما عجيبا عن التوبة، ليتك تضمنه خطبة الجمعة القادمة.

– أفعل إن شاء الله.

– سوف أرسل إليك الورقات التي جمعتها، خذ منها ما تراه.

– بإذن الله.

     بعث لي، خمس ورقات، لخص فيها صاحبي ما قرأ من كتب عن التوبة، قرأتها، أعدت ترتيب بعض الفقرات، وبحثت عن تخريج الأحاديث وها هي ذي بين أيديكم.

إن التوبة هي: انتباه القلب عن رقدة الغفلة، ورؤية العبد ما عليه من سوء الحال وتقصير في حق الله -عز وجل.

     وتظاهرت دلائل الكتاب والسنة، وإجماع الأمة على وجوب التوبة على الجميع، فإذا كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يحصى له أكثر من مئة مرة التوبة والاستغفار، فغيره من باب أولى، عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: «ربما أعد لرسول الله  صلى الله عليه وسلم  في المجلس الواحد مئة مرة (رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم)» أبي داوود (الألباني).

     قال الله -تعالى-: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور:31)، وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا} (التحريم:8)، أمر الجميع بالتوبة وجعلها سببا للفلاح.

وقال -تعالى-: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات:11).

     فأوقع اسم الظالم على من لم يتب، ولا أظلم منه لجهله بربه وبحقه وبعيب نفسه وآفات أعماله. عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» (رواه البخاري). قال ابن عثيمين في شرح رياض الصالحين: وأعظم توبة وأوجبها التوبة من الكفر إلى الإيمان، قال الله -تعالى-: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} (الأنفال:38)، ثم يليها التوبة من الكبائر، كبائر الذنوب.

     ثم المرتبة الثالثة: التوبة من صغائر الذنوب. والواجب على المرء، أن يتوب إلى الله -سبحانه وتعالى- من كل ذنب. وللتوبة شروط ثلاثة: كما قال المؤلف -رحمه الله-، ولكنها بالتتبع تبلغ إلى خمسة:

– الشرط الأول: الإخلاص لله.

– الشرط الثاني: الندم على ما فعل من المعصية.

– الشرط الثالث: أن يقلع عن الذنب الذي هو فيه.

– الشرط الرابع: العزم على ألا يعود في المستقبل.

– الشرط الخامس: أن تكون في زمن تقبل فيه التوبة.

     لقول الله -تعالى-: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} (النساء:18) انتهى كلامه.

     وقال -تعالى- في حق أصحاب الأخدود الذي خدوا الأخاديد لتعذيب المؤمنين وتحريقهم بالنار: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} (البروج:10). قال الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة. وحذر -سبحانه- من القنوط من رحمته وتوبته، قال -تعالى-: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر:53).

أما ثمرات التوبة فهي كثيرة منها:

1- التوبة سبب للفلاح: قال -تعالى-: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور:31).

2- بالتوبة تكفر السيئات: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه» (متفق عليه).

3-  بالتوبة تبدل السيئات حسنات: قال -تعالى-: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (الفرقان:70).

قال ابن القيم في هذه الآية: وهذا من أعظم البشارة للتائبين إذا اقترن بتوبتهم إيمان وعمل صالح، وهو حقيقة التوبة.

4- التوبة سبب للمتاع الحسن: قال -تعالى-: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} (هود:3).

5- أن الله يحب التوبة والتوابين: فعبودية التوبة من أحب العبوديات إلى الله وأكرمها؛ فإنه -سبحانه- يحب التوابين، قال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (التوبة:222).

6- حصول الذل والانكسار لله: ففي التوبة من الذل، والانكسار، والخضوع، والتذلل لله ما هو أحب إلى الله من كثير من الأعمال الظاهرة وإن زادت في القدر والكمية على عبودية التوبة؛ فالذل والانكسار روح العبودية، ولبها.

7- أن يعرف العبد حقيقة نفسه: وأنها الظالمة الجهول، فإذا ابتلي العبد بالذنب عرف نفسه، ونقصها؛ فرتب له على ذلك حكما ومصالح عديدة، منها أن يأنف نقصها، ويجتهد في كمالها، ومنها أن يعلم فقرها إلى من يتولاها، ويحفظها، وأن كل ما فيها من خير، وعلم، وهدى، وإنابة، وتقوى، فهو من ربها الذي زكاها، وأعطاها إياه.