أقرب السبل إلى الله، كمال الافتقار إليه -سبحانه!

     منذ وفاة والدتي ليلة الثلاثاء، الثاني عشر من الشهر الثاني عشر من العام 2022 للميلاد، وأنا أتردد على المقبرة مرتين في الأسبوع، ومن فضل الله علي أنني توليت صلاة الجناة عليها،، ولحدها، وتمام الدفن، ثم الدعاء، واجتهدت أن تكون وفق سنة النبي – صلى الله عليه وسلم .

     أديت صلاة الجمعة الماضية في المسجد المجاور للمقبرة، وكانت الخطبة مؤثرة، موضوعها (الافتقار إلى الله)، أدينا صلاة الجنازة على خمسة من الأموات، ثلاث نساء، ورجل، وطفل، بعد أن انتهينا من الدفن وفي طريق عودتي إلى مركبتي، قال صاحبي:

– كانت الخطبة اليوم مؤثرة ولاسيما الحديث القدسي، عن أبي ذر قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله -تعالى-: يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي أنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم..)» مسلم.

– نعم هذا حديث عظيم، كان إدريس إذا ذكره جثا على ركبتيه، وفيه بيان تمام افتقار الخلق جميعا لله -عز وجل- في أبسط حاجاته، فضلا عن أعظم الحاجات، وهي الهداية؛ ولذلك في نهاية الحديث يقول الله -تعالى-: «يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم؛ فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك لا يلومن إلا نفسه».

– الافتقار إلى الله، هل هذا مثل قول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (فاطر:15).

– نعم، الكل فقير إلى الله، سواء: الغني، والملك، والقوي، والعظيم، والمعافى، والشاب، والمؤمن، والكافر، ولكن الغافل، لا يظهر الافتقار إلـي الله ولا يتذكره إلا في الشدة، والضيق، أما المؤمن فإنه يظهر الافتقار إلي الله، في كل حين، يقول -تعالى-: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} (الزمر:8).

توقفنا عند براد المياه، أخذنا حاجتنا، تابعنا المسير.

– نعم إنها قضية ينبغي الانتباه إليها، وعدم الغفلة عنها.

– من التزم السنة، وفقه الله إليها،  ففي الحديث: عن معاذ بن أنس، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «من أكل طعاما ثم قال: الحمدلله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن لبس ثوبا فقال: الحمدلله الذي كساني هذا الثوب ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفر له ما تقدم من ذنبه» (صحيح أبي داوود -الألباني).

     وفي الحديث أيضا عن حذيفه بن اليمان قال: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا أراد أن  ينام قال: «باسمك اللهم نموت ونحيا، وإذا استيقظ من منامه قال: الحمدلله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور» البخاري.

     فإذا تذكر العبد أنه فقير إلى الله عندما يأكل طعامه ويلبس ثيابه ويستيقظ من نومه، فإنه يمارس هذا العمل القلبي دائما، بل هناك تذكير أكبر من هذا، وهو قولنا في كل ركعة من صلواتنا، {إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم}، وهذا يحدث أكثر من سبع عشرة مرة في كل يوم.

     فالعبد يفتقر إلى الله في الثبات على الدين، ويفتقر إليه في الطعام والشراب والثياب والنوم واليقظة، ومن كان هذا ديدنه، فلا شك أن الله يغنيه!

بلغنا مواقف المركبات، طلبت من صاحبي:

– ابحث لنا في مكتبة هاتفك عن أقوال ابن القيم في الافتقار إلي الله.

– لك ذلك.

دقائق وكان صاحبي يقرأ لنا، في طريق عودتنا.

     قال ابن القيم: الفقر الحقيقي: دوام الافتقار إلى الله في كل حال، وأن يشهد العبد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة إلى الله -تعالى- من كل وجه. ومن الافتقار إلى الله -عز وجل- أيضا الافتقار إليه في التوفيق إلى الأعمال الصالحة، وهو الافتقار إليه في أمر الهداية وعدم حصول العُجب؛ فالعبد المؤمن مفتقر إلى الله -تعالى- في عبادته ويعرف أن منازله التي يحصلها والعبادات التي يوفق لها هي محض توفيقه -عز وجل- ومنة منه -تعالى- فيفتقر إلى الله في الهداية؛ لذلك يقول وهو يقرأ فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (الفاتحة)، فهو يشهد نعمة الله عليه وعلى غيره، ويسأله الهداية ليل نهار، ويعلم أن التوفيق من عند الله -تعالى-، وأنه لا يثبت على الخير بنفسه، بل يثبته الله -عز وجل- مقلب القلوب ومصرف القلوب -سبحانه وتعالى-، فهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا في أمر الدين كما لم يملكه في أمر الدنيا، فيزول من قلبه إعجاب النفس، فالمؤمن يشهد فقره إلى الله -تعالى- إلها معبودا، وأن الله -عز وجل- هو الذي سبق فضله إليه كل شيء.

     فما كان به من خير فمن الله، فهو لم يتغير حاله إلى الطاعة وإلى الإيمان وإلى الحب وإلى الخوف وإلى الرجاء، وإلى التوكل وإلى الافتقار وإلى الصلاة والزكاة والصيام والحج والعمرة بنفسه، ولم يوفق إلى ذلك بنفسه إلا أن هداه الله، والمفتقر إلى الله يكون قريبا من الله -سبحانه وتعالى- في كل عباداته وأعماله، وأن الأسباب هي مجرد أسباب يسرها الله -عز وجل- بما فيها الأعمال الصالحة، كما في الصحيحين «أن أبا هريرة قال سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول «لن يدخل أحدا عمله الجنة» وفي رواية «لن ينجي أحدا منكم عمله». قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «لا، ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة؛ فسددوا وقاربوا»، فهذا مقام الافتقار إلى الله -سبحانه وتعالى- في كل شيء؛ حيث يرى الأسباب كلها ويرى نفسه ضعيفة، لا تؤثر شيئا إلا أن يجعلها الله كذلك، فيحقق حقيقة: «لا حول ولا قوة إلا بالله»، وفقر العباد إلى ربهم نوعان: الأول: فقر إلى ربوبيته، وهو فقر المخلوقات بأسرها إلى خالقها، فهي مفتقرة إلى ربها في خلقها وبقائها وحفظها ونفعها وضرها ورزقها وتدبيرها. الثاني: فقر إلى ألوهيته -سبحانه-، وهو فقر أنبيائه ورسله وعباده الصالحين، وهذا هو الفقر النافع، ولبه دوام الافتقار إلى الله في كل حال.

     الافتقار إلى الله من أجل مراتب المحبين، وأرفع منازل المنيبين، وأزلف حالات التائبين، وأعظم آلات الأوابين، وأجل مقامات التائبين، وأعلى وسائل المقربين، وهو أصل العبودية، وصدر الإخلاص، ورأس التقوى، ومخ الصدق، وأساس الهدى؛ فينبغي للعبد أن يكون مفتقرا إلى الله -تعالى- دون انقطاع البتة.

– كلام جميل، ويمكن ممارسة هذه العبادة القلبية العظيمة فضلا عما ذكرناه بكثرة الإلحاح والسؤال لله -عز وجل- ولاسيما في السجود عند الصلاة فإن العبد يكون  في أذل هيئة بدنية؛ فينبغي أن يكون في أفقر حالة قلبية بين يدي رب العزة -سبحانه.