إذا أدرك العبد منزلة الإخبات نزل أول منازل الطمأنينة.

     لم أسافر إلى لبنان لأكثر من ثلاث سنوات؛ لما يمر به هذا البلد العزيز من أزمات، جعلت الحليم حيران، بعد استشارة معارفي هناك، عقدت العزم، وتوكلت على الله، وكنت هناك لثلاثة أيام في شهر نوفمبر الفائت.

     حرصت أن أصلي في مسجد (الحميضي) وسط بيروت؛ لألتقي الإمام، الذي صرت أجلس معه في كل زيارة تقريبا، كان يقرأ لبعض الشباب، من كتاب مدارج السالكين، قطع قراءته ورحب بي ترحيبا حارا، طلبت منه متابعة الدرس، جلست استمع.

– الإخبات: هو التذلل لله -عز وجل- مع المحبة والتعظيم له، وهو أول مقامات الطمأنينة واليقين والثقة بالله، وهو أول مقام يتخلص فيه العبد من التردد والرجوع، سأله أحد الحاضرين:

– قرأت أن الإخبات، يعني التواضع.

– نعم لغة (الإخبات) من الخبت وهو المكان المنخفض من الأرض، واستعير لمعنى التواضع، ويقال فيه (خبتة) أي تواضع ودماثة.

      والآيات التي وردت في كتاب الله هي:  {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (هود:23). {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} (الحج:34). {لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الحج:54).

في التفسير، (المخبتين) المطمئنين المتواضعين.

{فتخبت له قلوبهم}، طاعة وتواضعا لأمره بامتثاله، استقر الحق في قلوبهم فخضعوا له.

     فالإخبات، تواضع وانقياد وخضوع لأمر الله -تعالى. وفي الحديث عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه كان من دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم -: «رب أعني ولا تعن عليّ، وانصرني ولا تنصر علي وامكر لي ولا تمكر علي واهدني ويسر الهدى لي، وانصرني على من بغى علي، رب اجعلني لك شكارا، لك ذكارا، لك رهابا، لك مطواعا، لك مخبتا، إليك أواها منيبا، رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، وسدد لساني، واهد قلبي، واسلل سخيمة صدري» صحيح ابن ماجة.

كان الحضور يدونون ملاحظاتهم من كلام الشيخ، وبعضهم كان يسجل الدرس كاملا في جهازه النقال.

تابع الشيخ حديثه:

– ومنزلة الإخبات، منزلة متقدمة من منازل القرب من الله، لا تنال إلا بمجاهدة النفس وكبح جماحها، وتربيتها على التواضع لأوامر الله، والخضوع لتعاليمه الواردة في القرآن أو السنة الصحيحة.

     وبيّن الله -سبحانه- صفات المخبتين في سورة الحج الآية: (34)، فذكر في الآية بعدها: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (الحج:35).

     فأتبع صفة المخبتين بأربع صفات وهي: وجل القلوب عند ذكر الله، والصبر على الأذى في سبيله، وإقامة الصلاة، والإنفاق. وكل هذه الصفات الأربع مظاهر للتواضع؛ فليس المقصود مَنْ جمع تلك الصفات؛ لأن بعض المؤمنين لايجد ما ينفق منه، وإنما المقصود من لم يخل بواحدة منها عند إمكانها، والمراد من الإنفاق الإنفاق على المحتاجين الضعفاء من المؤمنين؛ لأن ذلك هو دأب المخبتين. والمراد بالصبر: الصبر على ما يصيبهم من الأذى في سبيل الإسلام، وأما الصبر في الحروب وعلى فقد الأحبة فمما تشترك فيه النفوس الجلدة من المتكبرين والمخبتين. إن القلوب بالنسبة للاستجابة للحق تنقسم إلى قسمين: أحدهما: قلوب مستجيبة للحق، فهذه بأرفع المنازل في الدنيا والآخرة.

وثانيهما: قلوب معرضة عن الحق، والإعراض مراتب:

     فالإعراض مرتبة، والتكذيب مرتبة فوقها، ثم الاستهزاء مرتبة فوقها، والمرتبة الأسوأ من ذلك هي الصد عنه، كما قال الله -سبحانه-: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} (النحل:88).

والله -جل جلاله- جعل القلوب على ثلاثة أقسام:

     مختبة، ومريضة، وقاسية. فالقلوب المخبتة: هي التي تنتفع بالقرآن، وتزكو به. والإخبات: سكون الجوارح على وجه التواضع والخشوع لله.

     ومن آثار الإخبات: وجل القلوب لذكر الله -سبحانه-، والصبر على أقداره، والإخلاص في عبوديته، والإحسان إلى خلقه، كما قال -سبحانه-: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (الحج:34-35). فالقلب المخبت ضد القاسي والمريض.

القلب المخبت المطمئن إليه، وهو الذي ينتفع بالقرآن ويزكو به.

ومن فوائد (الإخبات):

1- أول درجات الطمأنينة والثقة بالله وحسن الظن به.

2- للمخبت البشرى من الله بالجنة.

3- الأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة.

4- الإخبات من الأحوال القلبية الموجبة للالتفات عما سوى الله.

5- الإخبات يورث صاحبة العزة في الدنيا والنجاة في الآخرة.

6- الإخبات يقي من الفتنة.

7- بالإخبات ترتفع الهمة وتعلو النفس عن الرغبة في المدح أو الخشية من الذم.

8- بالإخبات يباشر القلب حلاوة الإيمان واليقين.