«التوكل نصف الدين والنصف الثاني الإنابة» (مدارج السالكين لابن القيم).

– أعمال القلوب تزيد وتنقص، فيرقى العبد في الدرجات بزيادتها، وتنخفض منزلته بنقصانها، ويتفاوت العباد، بما في قلوبهم.

     هكذا بدأ ضيفنا الشيخ خاطرته، أقدر أنه لم يتجاوز الأربعين عاما، ولكنه له صيت في الرقائق، وتخصص في كتب الإمام ابن القيم؛ حيث كان موضوع أطروحته الدكتوراه لديه، تابعنا حديثه متلهفين.

– والإنابة، من أعمال القلوب، وتختلف عن التوبة، ومدارها على الرجوع إلى الله في كل وقت، والإنابة إنابتان، الأولى: إنابة الخلق جميعا، ويشترك فيها المؤمن والكافر ولا ميزة لها ولا ثواب عليها، كما قال -تعالى-: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} (الروم:33).

– والثانية: إنابة المؤمنين والأولياء والأنبياء، وهي إنابة العبودية لله، وتتضمن أربعة أمور، محبة الله والخضوع له -سبحانه-، والإقبال عليه والإعراض عما سواه، فلا يستحق اسم (المنيب) إلا من حقق هذه الأربع. كانت المحاضرة مسجلة، وتبث مباشرة عبر قنوات التواصل الاجتماعي، وكثير من الحضور كانت بيده كراسة يكتب فيها ملاحظات. يقول ابن القيم في مدارج السالكين، ج1، ص432:

     إذا استقرت قدم العبد في منزل التوبة، نزل بعده منزل الإنابة، وأثنى على خليله بها، فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} (هود:75)، وقال شعيب -عليه السلام- لقومه: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود:88)، وعن داوود -عليه السلام-: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} (ص:24)، وأخبر أن آياته إنما يتبصر بها أهل الإنابة ويتذكرونها ، فقال: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} (ق:8)، إلى أن قال: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} (ق:8)، وقال -تعالى-: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ} (غافر:13)، وقال -تعالى-: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الروم:31).

     {منيبين} منصوب على الحال من الضمير المستتر في قوله: {فأقم وجهك} (الروم:30)؛ لأن هذا الخطاب له ولأمته، أي أقم وجهك أنت وأمتك منيبين إليه، ويجوز أن يكون حالا من المفعول في قوله: {فطر الناس عليها} (الروم:30)، أي فطرهم منيبين إليه، فلو خلوا وفطرهم لما عدلت عن الإنابة إليه، ولكنها تتحول وتتغير عما فطرت عليه، كما قال – صلى الله عليه وسلم -: «ما من مولد إلا يولد على الفطرة» متفق عليه، وأخبر أن ثوابه وجنته لأهل الخشية والإنابة، فقال: {ووَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} (ق:31-34)، وأخبر -سبحانه- أن البشرى منه إنما هي لأهل الإنابة، فقال: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} (الزمر:17).

وأمر الله -تعالى- بها فقال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}.

     وفي كتب التفسير: المنيب: الملازم للطاعة، ويظهر أن معنى أناب صار ذا نوبة، أي ذا رجوع متكرر وأن الهمزة فيها للصيرورة، والنوبة: حصة من عمل يتوزعه عدد من الناس وأصلها: فعلة بصيغة المرة؛ لأنها مرة من النوب وهو قيام أحد مقام غيره، ومنه النيابة، ويقال: تناوبوا عمل كذا، وفي حديث عمر: «كنت أنا وجار لي من الأنصار نتناوب النزول على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فينزل يوما وأنزل يوما» الحديث، فإطلاق المنيب على المطيع استعارة لتعهد الطاعة تعهدا متكررا، وجعلت تلك الاستعارة كناية عن مواصلة الطاعة وملازمتها، قال -تعالى-: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} (هود:75). واتباع (سبيل من أناب) هو الاقتداء بسيرة المنيبين لله، أي الراجعين إليه، المقلعين عن الشرك وعن المنهيات التي منها عقوق الوالدين، وهم الذين يدعون إلى التوحيد ومن اتبعوهم في ذلك. {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُون} (الزمر:54).

     لما فتح لهم باب الرجاء أعقبه بالإرشاد إلى وسيلة المغفرة معطوفا بالواو وللدلالة على الجمع بين النهي عن القنوط من الرحمة، وبين الإنابة جمعا يقتضي المبادرة، وهي أيضا مقتصى صيغة الأمر.

     أمر -تعالى- بالإنابة إليه، والمبادرة إليه فقال: {وأنيبوا إلى ربكم} بقلوبكم {وأسلموا له} بجوارحكم، وإذا أفردت الإنابة، دخلت فيها أعمال الجوار.

همس لي صاحبي مستحسنا ما نسمع:

-كلام جميل، مشوق.

تابع الشيخ حديثه:

– فالإنابة عمل قلبي دائم، كما أعمال القلوب الأخرى، يجب على العبد أن يتعاهده دائما، ويتزود منه، نعم مطلوب من المقصرين (الإنابة إلى الله)، بالإقلاع عن المعاصي والعمل بالطاعات، وكذلك الصالحون مطلوب منهم الإنابة القلبية، وهي الرجوع إلى الله بزيادة التقرب إليه، وأشدالخلق إنابة إلى الله، أشدهم إيمانا، الأنبياء والرسل، وكان في دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم – في صلاة الليل: «اللهم لك أسلمت، وبك أمنت وعليك توكلت، وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت؛ فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وأسررت وأعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت» (البخاري).

     وأختم بقول الإمام ابن القيم: «الإنابة هي عكوف القلب على الله -عز وجل- كاعتكاف البدن في المسجد لا يفارقه، وحقيقة ذلك عكوف القلب على محبته وإجلاله وتعظيمه، وعكوف الجوارح على طاعته بالإخلاص والمتابعة لرسوله – صلى الله عليه وسلم -». (الفوائد: ج/196).