{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (البقرة3-4).

     جاري في المنزل المقابل، أستاذ جامعي من السودان، ويدرس الشريعة في إحدى الجامعات الخاصة، وهو دمث الخلق، جميل المعشر، لا تفارق الابتسامة محياه، ولا يتردد في إلقاء الخواطر، والمواعظ الخفيفة القصيرة، في أي مجلس مكان.

– أما اليقين، فهو العلم الجازم الذي لا يشوبه شك، واستقرار هذا العلم في القلب؛ فلا يتزعزع ولا يضطرب، ومنه يقال (ماء يقن)، إذا استقر عن الحركة. و(اليقين) ضد الشك، وهو ركن من الإيمان، بمعنى أن الإيمان إن لم يكن عن يقين، ينتقض، فالإيمان بالله والملائكة  والكتب والرسل واليوم الآخر، كلها يجب أن تكون عن يقين لا شك فيه، بكل ما ثبت في القرآن والسنة الصحيحة.

– هل اليقين درجة واحدة، أم درجات يسعى العبد لتحقيقها، ويرتقي فيها؟

كان السائل أحد طلبة العلم، كثير الاطلاع والمتابعة للدروس والمحاضرات، التفت إليه الشيخ بابتسامته المعهودة.

–  سؤال جميل، وجيد، لا شك أن اليقين درجات يرتقي خلالها العبد، والناس يتفاوتون في درجات اليقين، ولكن الحد  الأدنى هو اليقين بما أخبر به الله -عز وجل- وثبت في سنة النبي – صلى الله عليه وسلم -، من أمور الغيب كالإيمان بالله والملائكة والجنة والنار، والجن، والصراط والحوض، وغيرها وإليكم بعض التفصيل في ذلك:

     {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (النمل:3) و(لقمان:4)، أما الكفار فقد أخبر الله عنهم: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} (الجاثية:32)، فهذه علامة فارقة بين الإيمان والكفر. يقول ابن القيم: «ودرجات اليقين ثلاث: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، وقبول ما غاب من الحق والوقوف على ما قام بالحق، استوقفت صاحبي:

– مهلا شيخنا الفاضل، أرجو  أن تحدثنا بطريقة أسهل حتى تصل المعلومة لعامتنا، ابن القيم يخاطب طلبة علم متخصصين.

– لك ذلك.

     أما قبول ما ظهر من الحق فهو قبول أوامر الله ورسوله والإذعان لها وعدم رد شيء من الآيات أو الأحاديث أو الأوامر أو النواهي، وقبول ما غاب من الحق، كالإيمان بما ورد من قضايا الغيب، والوقوف على ما قام بالحق، وتطبيق شرع الله والعمل بمقتضى أمر الله، أما عين اليقين: فهو  مشاهدة ما كان غائبا، من أمور الآخرة ويحصل ذلك بعد الموت، مشاهدة بعض ما أخبر الله عنه كالملائكة  وأنواع النعيم وأنواع العذاب، وكل ذلك يشاهد في الآخرة أيضا.

     أما حق اليقين فهو التلبس بالأمر بعد دخول الجنة للمؤمنين والنار للمجرمين، ولذلك وصف الله -تعالى- كتابه بأنه ينبغي أن يكون في أعلى درجات اليقين، فقال -سبحانه-: {وإنه لحق اليقين} (الحاقة:51).

     وهذا ما ينبغي أن يسعى إليه المؤمن ليناله فينعكس ذلك على جوانب حياته كافة، في النعماء والضراءوفي كل تقلبات الدنيا كما في حديث ابن عباس – رضي الله عنه -: «يا غلام احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم لو أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف» (صحيح أحمد والترمذي).

     فاليقين يجب تحقيقه في قضايا الإيمان، ويحتاج إليه المؤمن في أمور الحياة ليعيش حياة مطمئنة، كما في الدعاء، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قلما كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقوم  من مجلس حتى يدعو بهذه الدعوات لأصحابه: «اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون  به علينا مصائب الدنيا» (حسنه الألباني)، وكذلك  يحتاج العبد لليقين في دعائه لله -عز وجل- كما في الحديث: «ادعوا الله وأنتم موقنون  بالإجابة؛ فإن الله لا يستجيب لعبد دعاء عن ظهر قلب غافل» (الصحيحة).

– وأين يكون التفاوت بين الناس؟

– التفاوت يكون بما يستقر في القلب من اليقين، وحتى يتحصل العبد على اليقين يجب أن يتحصل على العلم ويعمل بمقتضاه ويدعو الله -عز وجل- أن يرزقه اليقين، والله يعطي كل عبد ما يستحق من الخير؛ لأن الله يعلم ما في القلوب، والقلب هو محل نظر القلب.

     كعلم العبد  أن الله رب كل شيء وملكيه، ولا خالق غيره، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن؛ فهذا قد تصحبه الطمأنينة إلى الله والتوكل عليه وقد لا يصحبه العمل بذلك، إما لغفلة القلب عن هذا العلم، والغفلة هي ضد العلم التام، وإن لم تكن ضد أصل العلم، وإما للخواطر التي تسنح في القلب من الالتفات إلى الأسباب وإما لغير ذلك. فأهل اليقين إذا ابتلوا ثبتوا، بخلاف غيرهم فإن الابتلاء قد يذهب إيمانه أو ينقصه.

     وأما كيف يحصل اليقين فبثلاثة أشياء: أحدها: تدبر القرآن، والثاني: تدبر الآيات التي يحدثها الله  في الأنفس والآفاق التي تبين أنه الحق. والثالث: العمل بموجب العلم.

     تنافس المتنافسون، وإليه شمر العاملون، وهو مع المحبة ركنان للإيمان، وعليهما ينبني وبهما قوامه، وهما يمدان سائر الأعمال القلبية والبدنية، وعنهما تصدر، وبضعفهما يكون ضعف الأعمال، وبقوتهما تقوى الأعمال، وجميع منازل السائرين إنما تفتتح بالمحبة واليقين وهما يثمران كل عمل صالح، وعلم نافع، وهدى مستقيم. (من مدارج السالكين).