التقينا بعد انقطاع السفر في الصيف، قضى صاحبي عطلته الصيفية في أوروبا، وقضيتها أنا في شرق آسيا، ثم تركيا، لفترة امتدت أسبوعين تقريبا، كان أول لقاء لنا بين العشائين.

     المراقبة أساس أعمال القلوب جميعا، ولقد جمع الرسول – صلى الله عليه وسلم – أصول أعمال القلب وفروعها كلها في كلمة واحدة (الإحسان): «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

– صدق رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وكما قال: «فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون» مسلم.

– لماذا لا يذكر الخوف إلا وذكر الرجاء، ولا يذكر الرجاء إلا وذكر الخوف وكأنهما مقترنان أبدا؟

– تعجبني ملاحظتك الدقيقة يا (أبا أحمد)، نعم هما مقترنان، ودعني أقرأ لك من كلام الإمام ابن القيم -رحمه الله:

     «الخوف سوط يضرب به العبد نفسه؛ لئلا تخرج عن الدرب، والرجاء حاد يحدوها، يطيب لها السير، والحب قائدها زمامها الذي يسوقها به». وفي موضع آخر: «الخوف يبعدك عن معصيته، والرجاء يخرجك إلى طاعته، والحب يسوقك إليه سوقا». وفي موضع ثالث: «القلب في سيره إلى الله -عز وجل- مثل الطائر، المحبة رأسه والخوف والرجاء جناحاه».

       كان حديثنا في الديوان الملحق بالمسجد، وهو مكان للراحة، وفيه أدوات إعداد القهوة والشاي، ومكتب صغير، نستخدمه في عقود الزواج، وغير ذلك.

– أراك تستشهد كثيرا بكتب ابن القيم مؤخرا!

– نعم، لأننا نتحدث عن (القلب)، وما يتعلق به، والإمام ابن القيم مرجع في هذه القضايا، يفصل فيها تفصيلا لا تجده عند غيره.

إليك بعض ما كتب:

      الخوف أحد أركان الإيمان والإحسان الثلاثة التي عليها مدار مقامات السالكين جميعها، وهي الخوف والرجاء والمحبة، وقد ذكره -سبحانه- في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (الإسراء:57)، فجمع بين المقامات الثلاثة؛ فإن ابتغاء الوسيلة إليه هو التقرب إليه بحبه وفعل ما يحبه، ثم يقول: ويرجون رحمته ويخافون عذابه؛ فذكر الحب والخوف والرجاء.

     وقد أثنى -سبحانه- على أقرب عباده إليه بالخوف منه؛ فقال عن أنبيائه -بعد أن أثنى عليهم ومدحهم-: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} (الإنيباء:90)، فالرغب الرجاء، والرهب الخوف، وقال عن ملائكته الذين قد أمنهم من عذابه: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (النحل:90)، وفي الصحيح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «والله إني لأعلمكم بالله -عز وجل- وأخشاكم له» مسند الإمام أحمد. فكلما كان العبد بالله أعلم، كان له أخوف، قال ابن مسعود – رضي الله عنه – وكفى بخشية الله علما. والخوف ينشأ من ثلاثة أمور، أحدها: معرفته بالجناية وقبحها، والثاني: تصديق الوعيد وأن الله رتب على المعصية عقوبتها، والثالث: أنه لا يعلم لعله يمنع من التوبة ويحال بينه وبينها إذا ارتكب الذنب، فبهذه الأمور الثلاثة يتم له الخوف، وبحسب قوتها وضعفها تكون قوة الخوف وضعفه.

     وورد عن أمير المؤمنين على – رضي الله عنه -: «لا يرجوَنَّ عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه» فجعل الرجاء متعلقا بالرب- سبحانه وتعالى-؛ لأن رحمته من لوازم ذاته وهي سبقت غضبه، وأما الخوف فمتعلق بالذنب فهو سبب المخافة حتى لو قدر عدم الذنب بالكلية لم تكن مخافة.

     فإن قيل فما وجه خوف الملائكة وهم معصومون من الذنوب التي هي أسباب المخافة، وشدة خوف النبي مع علمه بأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأنه أقرب الخلق إلى الله، قيل عن هذا أربعة أجوبة، الجواب الأول أن هذا الخوف على حسب القرب من الله والمنزلة عنده، وكلما كان العبد أقرب إلى الله، كان خوفه منه أشد.

الجواب الثاني: أنه لو فرض أن العبد يأتى بمقدوره كله الطاعة ظاهراً وباطناً؛ فالذي ينبغي لربه -سبحانه- فوق ذلك وأضعاف أضعافه.

     الجواب الثالث: أن العبد إذا علم أن الله -سبحانه وتعالى- هو مقلب القلوب، وأنه يحول بين المرء وقلبه، وأنه – سبحانه وتعالى – كل يوم هو في شأن، فما يؤمنه أن يقلب الله قلبه ويحول بينه وبينه، ويزيغه بعد إقامته؟ وقد أثنى الله على عباده المؤمنين بقولهم: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} (آل عمران: 8)، فلولا خوف الإزاغة لما سألوه ألا يزيغ قلوبهم.

     الجواب الرابع: أن الله -سبحانه وتعالى- هو الذي يخلق أفعال العبد الظاهرة والباطنة؛ فهو الذي يجعل الإيمان والهدى في القلب، ويجعل التوبة والإنابة والإقبال والمحبة والتفويض وأضدادها، والعبد في كل لحظة مفتقر إلى هداية يجعلها الله في قلبه، وحركات يحركها بها في طاعته.

      والخوف يزول في الجنة؛ لأن تعلقه إنما هو بالأفعال لا بالذات كما تقدم، وقد أمنهم ما كانوا يخافون منه؛ فقد أمنوا ألا يفعلوا ما يخافون منه، وأن يفعل بهم ربهم ما يخيفهم ولكن كان الخوف في الدنيا أنفع لهم؛ فبه وصلوا إلى الأمن التام فإن؛ الله- سبحانه وتعالى- لا يجمع على عبده مخافتين اثنتين؛ فمن خافه في الدنيا أمنه يوم القيامة، ومن أمنه في الدنيا ولم يخفه أخافه في الآخرة، وناهيك شرفا وفضلا بمقام ثمرته الأمن الدائم المطلق!.