– لقد أسهبت وأكثرت من بيان (الخوف)، ولم تتكلم عن (الرجاء).

هكذا عقب صاحبي وقد انطلق أذان العشاء.

– حديثنا لم ينته بعد، نكمل بعد العشاء إن شئت أو في مجلس الغد.

– لنقم إلى الصلاة ونتفق بعدها -إن شاء الله.

أدينا صلاة العشاء، علم بعض إخواننا بنقاشنا، شاركونا المجلس.

– أظن أننا لن نزيد عن نصف ساعة في نقاشنا -إن شاء الله.

– أما الرجاء فهو ضد اليأس، فهو من أعمال القلوب الواجبة ويقترن بالخوف، أما اليأس فهو من معاصي القلب، كما قال -تعالى-: {لَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (يوسف:87).

استوقفني (أبو عمر).

– ربما يجعل بعضهم (الرجاء) سببا للبناء على المعاصي وترك الطاعات.

– هذا لم يعرف ربه معرفة صحيحة ولم يفهم معنى (الرجاء).

     نعم (الرجاء) عمل قلبي، ولكن يصحبه عمل في الجوارح، ويذكر العلماء، أنه لا يكون الرجاء إلا بعد بذل الأسباب، كالزارع، لا يرجو أن يثمر نباته، إلا إذا وضعه في أرض صالحة واعتنى به وسقاه، ثم بعد ذلك يرجو ثمره، هذا هو الرجاء، أما الآخر فهو (أماني)، لا قيمة لها، وربما تكون وبالا على صاحبها، وضرب الله لنا مثلا في سورة الكهف، بصاحب الجنة الكافر، حين قال: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا} (الكهف:36)، دون سبب ودون عمل؛ فخاب وخسر. كنا خمسة نفر، أنا وصاحبي، و(أبو عمر)، حافظ للقرآن، ومدرب في المعهد الديني، واثنان من رواد المسجد الدائمين.

– والعبد يحتاج للرجاء الصحيح على الدوام، ولكن أحوج الناس للرجاء رجلان، رجل غلب عليه الخوف؛ فأخذ بنفسه وأفسد حياته وتملكه الوسواس، ورجل غلب عليه اليأس من المعاصي، حتى ترك جميع الطاعات، والعالم هو الذي يعطي كل مريض دواءه الصحيح من كتاب الله -عز وجل- وسنة النبي – صلى الله عليه وسلم .

عقب (أبو عمر).

– ولعل أرجى آية في كتاب الله -عز وجل-، هي قوله -تعالى-: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر:53).

– نعم هي كذلك وكما قال العلامة ابن باز، هذه لمن تاب من الشرك وما دونه، فلا ينبغي لعبد أن يرجو رحمة الله، وهو مقيم على المعصية.

ويتحقق الرجاء عند العبد الصالح بأمور:

– أولها: أن يذكر سابق فضل الله عليه، دينا ودنيا، من هداية وعافية وتوفيق وغير ذلك.

– وثانيها: أن يتذكر وعد الله وهو ثواب الله الجزيل وعظيم كرمه، دون سؤال من العبد.

– وثالثها: عظم الأجر، مع قلة العمل، وهذا من العلم باسم الله (الشكور)، ونيل العبد ثوابا، دون استحقاق حقيقي.

– ورابعها: العلم بعظم رحمة الله، وأن رحمته سبقت غضبه وكما في الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من الجنة أحد» (مسلم).

     (الرجاء) مطلوب، و(التمني) مذموم، و(القنوط) ممنوع. ولا شك أن (الرجاء) الصحيح له ثمرات جميلة في قلب العبد المؤمن؛ فهو الدافع له أن يأتي الطاعات برغبة وحب، ويقبل على الله بقلبه، ويتلذذ بمناجاته، فتكون قرة عينه في الصلاة وراحة قلبه في الوقوف بين يدي الله، وقمة سعادته في السجود لله؛ حيث يكون أقرب ما يمكن إلى ربه، ويبث حاجاته إلى ربه، وهو موقن بالإجابة حتى يصل أن يفوض أمره إلى الله، في كل شأن من شؤون دينه ودنياه: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (غافر:44). فيطيب له المسير إلى الله، و(الرجاء) يوصل العبد إلى مقام (الشكر)، وهو من أعمال القلوب أيضا.

– وهل ينتفي الخوف عن العبد بعد ذلك؟

– كلا، أبدا، لا ينتفي الخوف إلا في الجنة، وحال المؤمن أن كل خائف راج، وكل راج خائف، إذا كان (الخوف والرجاء) صحيحين في قلب المؤمن، فالراجي، يخاف أن يفوته مطلوبه، فالخوف بلا رجاء قنوط، والرجاء بلا خوف تمنٍّ، واسمع قول الله -تعالى-: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (المؤمنون:60).

ففي التفسير: قال الزجاج: قلوبهم خائفة؛ لأنهم إلى ربهم راجعون وسبب الوجل هو أنهم يخافون ألا يقبل منهم ذلك على الوجه المطلوب لا مجرد رجوعهم إليه -سبحانه-: والمعنى من آمن بالجزاء والحساب وعلم أن المجازي والمحاسب هو الله -سبحانه- لم يخل من وجل، وفي الحديث عن عائشة -رضي الله عنها- قلت يا رسول الله: قول الله {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة} أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو مع ذلك يخاف الله؟ قال – صلى الله عليه وسلم -: «لا ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي وهو مع ذلك يخاف الله ألا يتقبل منه». – سبحان الله حقا! أعمال القلوب تحتاج إلى العلم الصحيح بها.

هكذا عقب (أبو صالح).

– والرجاء ثلاثة أنواع، الأول: رجاء رجل يعمل بالطاعات على نور من الله يرجو ثواب الله، فهذا محمود، والثاني: رجل أذنب ذنوبا وربما تكرر الذنب منه، فيتوب، يرجو مغفرة الله وعفوه وهذا محمود أيضا، والثالث: رجل تمادى في المعصية واغتر بالدنيا، وزعم أن رحمة الله واسعة، دون عمل، فهذا مذموم؛ لأنه غرور وتمن، وليس رجاء صحيحا.

ويؤثر عن أمير المومنين علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – قوله: «لا يرجوَنَّ العبد إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه».

     ونختم بقوله الله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (البقرة:218).