«إن لله على العبد عبوديتين: عبودية باطنة وعبودية ظاهرة؛ فقيامه بالعبودية الظاهرة مع تعريه عن العبودية الباطنة لا يقربه إلى الله، ولا يوجب له الثواب؛ فإن المقصود امتحان القلوب وابتلاء السرائر» (الفوائد).

     كنت في مطار (كوالامبور) بانتظار رحلة العودة إلى الكويت، أتيت باكرا؛ لأنه لم يكن ما أنجزه في المدينة بعد انتهاء مدة إقامتي في الفندق، ذهبت إلى المصلى قبل أذان المغرب، وهذه من الأمور التي أحببتها هناك، توفر المصليات النظيفة الواسعة في كل مكان، أدينا المغرب والعشاء، جمعا وقصرا، وأنا في طريقي للعودة إلى بوابة السفر، سلّم عليّ أحدهم، ونبهني إلى أن قراءتي تحتاج إلى مراعاة المدود، شكرته ومضيت.

التقيته مرة أخرى، في صالة الانتظار، كان عائدا إلى مصر، بعد دردشة قصيرة بدأ حوارنا.

– لا شك أن التوحيد، الذي هو إفراد الله -تعالى- بما اختص به من الألوهية والربوبية والأسماء والصفات، أعظم أعمال القلوب، من مات عليه نجا من الخلود في النار، ومن نقضه حرم من دخول الجنة، فهو نفي وإثبات في الحديث. «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله» (مسلم)، فلا يكفي أن يقول العبد «لا إله إلا الله»، بل يجب أن يكفر بما يعبد من دون الله، من قبور وأضرحة ومزارات وقبب ومشاهد، يعظمها بعض الناس، ويتقربون إليها بالنذور والذبائح والهدي والتمسح وغيرها، وهذه تنفي تلك.

– هذه أفكار الوهابية!

نظرت إليه منكرا عليه مقولته، أردت أن أنهي الحديث معه، استجمعت هدوئي، وقررت متابعة الحوار.

– أقول لك: قال  رسول الله  – صلى الله عليه وسلم -، وتقول: وهابية؟! هل نطقت أنا بهذه الكلمة، أو ذكرت شيئا عدا حديث النبي – صلى الله عليه وسلم -، ولكن دعنا نتحاور فيما ثبت عن الله في كتابه وعن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في سنته الصحيحة.

     يقول الله -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَفَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (النحل:36). {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء:25).

      وفي سورة الأعراف يذكر الله -تعالى-، نوحا، وهودا، وصالحا، وشعيبا، وكلهم يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، وهكذا مع جميع الأنبياء والرسل؛ فلأجل التوحيد أرسل الله الأنبياء وأنزل الكتب، وخلق الجنة والنار، فالتوحيد سبب الخلق وغايته وتوحيد الله، مكانه القلب أولا، فإذا تمكن من القلب أفلح العبد ونجا.

– هل تعني أن ما يفعله عامة المسلمين عند ضريح السيدة زينب أو ضريح (أبو مسلم)، أو (البدوي)… وغيرها، ينقض قولهم (لا إله إلا الله)؟

– نعم، هذه تنقض تلك، وما يفعله إلا الجهلة من الناس، فالعبد كلما ازداد علمه الصحيح بالله -عز وجل-، ازداد عبادة له، وبعدا عن الشرك به، هؤلاء جهلوا معنى التوحيد، ومعنى العبادة، وأسماء الله وصفاته، فتعلقت قلوبهم بالموتى، من الأنبياء والأولياء والأئمة والمشايخ، وجهلوا أنه لا ينفع ولا يضر إلا الله -عز وجل-، ولا يعطي ويمنع إلا الله -عز وجل-، ومن كانت له حاجة فليتوجه بها إلى الله مباشرة، كما أمر الله -تعالى-: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر:60). وقال -تعالى-: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (المائدة:76).

قاطعني:

– ولكنهم لا يعبدون هذه الأضرحة، لا يصلون لها ولا يسجدون لها!

– وهل العبادة الصلاة، والسجود فقط؟ العبادة بتعريفها الشرعي (اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة)، فالدعاء عبادة، بل قال النبي – صلى الله عليه وسلم – عن النعمان بن بشير: «الدعاء هو العبادة» صحيح الجامع، ولو تدبرت قول الله -تعالى- في الآية التي ذكرت سابقا. {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (غافر:٦٠)، ذكر أولا الدعاء، ثم ذكر العبادة، وفي وقوله -تعالى عن إبراهيم عليه السلام-:  {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} (مريم: ٤٨-٤٩).

     فذكر الدعاء أولا، ثم ذكر أنها العبادة. فالدعاء عبادة، والنذر عبادة، الحلف عبادة، بل أعظم من ذلك، أعمال القلب، من الخوف والرجاء عبادة، والخشية والرضا عبادة، والتوكل عبادة، وغيرها من أعمال القلوب، كما أن الصلاة عبادة، والسجود عبادة، لا ينبغي صرف أي شيء منها لغير الله؛ فهي تبدأ في القلب، وتنعكس على الجوارح، سكت صاحبي، فتابعت الحديث:

– فالتوحيد عمل قلبي أولا، يظهر أثره على الجوارح، وهو أعظم قربة يتقرب بها العبد إلى الله -عز وجل-، وشعاره: (لا إله إلا الله)؛ لذلك من عرف هذه الكلمة صادقا مخلصا، نجا من النار، كما قال الرسول – صلى الله عليه وسلم -: «أتاني جبريل فقال: بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، قلت: يا جبريل وإن سرق وإن زنا؟ قال: نعم، قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم. قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم وإن شرب الخمر» (الصحيحة).