«الصادقون مع الله قسمان، قسم صدقوا ما فضل من أوقاتهم بعد الفرائض إلى النوافل وجعلوها دأبهم، وقسم صرفوا ما فضل من الفرائض إلى الاهتمام بصلاح قلوبهم من تصحيح المحبة والخوف والرجاء والتوكل، وشتان بين هؤلاء وأولئك!» ابن القيم.

– هذه القضية وهي قضية كبرى، يغفل عنها أكثر الناس، بل أكثر الصالحين الملتزمين دين الله.

– تعني، أعمال القلوب، والعمل على إصلاحها؟

– نعم.

كنت وصاحبي في رحلة قصيرة إلى المدينة المنورة، وتركنا موضوع العمرة إلى الظروف هناك إن تهيأت.

– لا شك أن أعمال القلوب أشد وأصعب من أعمال الجوارح، أين تطهير القلب، من تطهير البدن؟ وأين مراقبة الله، من صلاة ركعتين، وأين الخوف من الله من ترك المسكرات؟ فأعمال القلوب صعبة شديدة، والفائز من تيسرت له وعمل بها.

– مثلا، الإخلاص، عمل عظيم من أعمال القلوب، وهو أصل كل عمل صالح من أعمال الجوارح، والعبد يحتاج إلى مجاهدة عظيمة حتى يحققه ويستحضره دائما.

وذلك أن كل عمل مهما صغر، ينشر له ديوانان: لم؟ وكيف؟

فالأول: هو الإخلاص، والثاني هو المتابعة، ولا يقبل إلا بهما.

     ومن حقق الإخلاص في قلبه، فاز، ودخل في وصف الله -تعالى-: {عباد الله المخلصين}، كما في قوله -تعالى- عن إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص:82-83).

كانت رحلتنا بالطائرة، مع أولى الرحلات المباشرة من الكويت إلى المدينة، قطع المضيف حديثنا بتقديمه القهوة والتمر.

تابعنا الحديث:

– دعني أقرأ لك بعض ما جمعت من كتابات ابن القيم -رحمه الله-: «ولا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة الثناء والمدح من الناس، فإذا طلبت الإخلاص فازهد في المدح والثناء».

والإخلاص من أعمال القلوب الواجبة، التي إن تخلفت عن العبادات، حبط أجرها، وإن صاحبت العادات، ثبت أجرها.

     وفي تعريف الإخلاص ورد الكثير من أقوال العلماء ومنها، تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين، وذلك أن مدار الإخلاص في اللغة، الصفاء والتميز عن الشوائب، وهو أشد شيء على النفس؛ لأنها لا نصيب لها فيه.

     وفي بيان عظيم ثواب الإخلاص يذكر العلماء حديث البطاقة، عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يستخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا، كل سجل مثل هذا، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه التسجلات؟ فقال: إنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله شيء».

     يقول شيخ الإسلام -معلقا على حديث البطاقة-: «فهذه حال من قالها بإخلاص وصدق كما قالها هذا الشخص، وإلا فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلهم كانوا يقولون لا إله إلا الله، ولم يترجح قولهم على سيئاتهم كما ترجح قول صاحب البطاقة».

– يظن كثير من الصالحين أن تحقيق الإخلاص سهل ولا يستدعي كل هذا الجهد الذي تقوله.

– ذلك أنهم لا يعلمون حقيقة الإخلاص، ودعني أذكر لك ما ورد في درجات الإخلاص حتى تبين لك صعوبته.

الدرجة الأولى:

إخراج رؤية العمل عن العمل، والخلاص عن طلب العوض عن العمل، والنزول عن الرضى بالعمل.

– فالأولى: يشاهد منة الله -تعالى- وتوفيقه له على هذا العمل: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ}.

– الثانية: ليعلم أنه عبد محض، والعبد لا يستحق على خدمته لسيده عوضا.

– الثالثة: مطالعته عيوبه وآفاته وتقصيره فيه.

الدرجة الثانية:

     الخجل من العمل مع بذل المجهود؛ حيث لا يرى العمل صالحا لله مع بذل المجهود {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}، فالمؤمن جمع إحسانا في مخافة، وسوء ظن بنفسه.

الدرجة الثالثة:

إخلاص العمل بالخلاص من العمل، إلا بنور العلم، فيحكمه في العمل حتى لا يقع في البدعة.

كانت ردة فعل صاحبي تلقائية.

– لا حول ولا قوة إلا بالله، حقا إنها مهمة صعبة، أن يحقق العبد الإخلاص، ويداوم عليه، دائما في كل عمل.

– نعم، هو عمل عظيم! قليل من يوفق فيه، والصحابة -رضوان الله عليهم- لم يسبقونا بكثرة صلاة ولا صيام ولا ذكر، وإنما بشيء وقر في قلوبهم، ومما وقر في قلوبهم: (الإخلاص).

أما ثمرات الإخلاص، فلا يعلمها إلا الله -عز وجل- وكلها خير في الدنيا والآخرة ولكن نذكر منها:

– تفريج الكربات (قصة الثلاثة).

– العصمة من الشيطان: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}.

– نيل شفاعة محمد – صلى الله عليه وسلم -: عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنه قال: «قلت يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال: لقد ظننت يا أبا هريرة، ألا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه».

– مغفرة الذنوب ونيل الرضوان: كما في حديث البطاقة.