– لم يترك كتاب الله سبيلا لهداية البشر إلا بينه، أمره بالتفكر في خلق السماوات والأرض، وأثر الرياح والمطر، وأحوال النبات وتحوله من حبة تشق الأرض ثم تستوي ثم تصفر ثم تكون حطاما، وأشار إلى الجبال والبحار والفلك، بل وبين لبني آدم أن يتفكروا في أنفسهم، بداية خلقهم ونموهم وخروجهم إلى الدنيا، ثم موتهم، الشاهد أن الحجة قامت على البشر، أن يوحدوا الله ولا يشركوا به شيئا ومع ذلك أخد كثير من الناس على عبادة غير الله، والشرك بالله، فأتت آيات أخرى من كتاب الله تتحداهم، وتعجزهم، وتبين ألا حجة لهم ولا برهان، وإذا هم ماتوا على ما هم عليه من الشرك، فإن عذابا شديدا خالدا ينتظرهم.

– أظن أننا يمكن أن نقول: إن القرآن تعامل مع (النفسيات) البشرية كافة، والطبقات الإنسانية جميعها، فمن لم يهتد بالآيات الكونية التي أشار إليها القرآن، له أن يفكر بالمعجزات العلمية، ومن لم يفهم الآيات السماوية وحركة الأفلاك، ولاسيما الشمس والقمر، ينظر إلى عجائب خلق الإنسان، وتفاصيل عمل أعضائه، هذا إذا لم يقتنع، ابتداء أن القرآن كلام الله بإعجازه اللغوي وفصاحته وبلاغته وترتيب كلماته وجمله، بل وأحرفه.

صاحبي متخصص في (علم النفس) ومع أني لا أحب هذا التخصص، ولا أعتقد أنه (علم) إلا أن صاحبي يلجأ دائما إلى آيات الله، وأحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – في التعامل مع من يستشيره في الأزمات النفسية، وما أكثرهم!

– استمع إلى قول الله -تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} (الأنعام:40-41).

     الآية في محاجة المشركين ممن اعترف أن له صانعا، أي: أنتم عند الشدائد ترجعون إلى الله ، وسترجعون إليه يوم القيامة أيضا فلم تصرون على الشرك في حال الرفاهية؟ وكانوا يعبدون الأصنام ويدعون الله في صرف العذاب.

     يقول -تعالى ذكره مكذّبا لهؤلاء العادلين به الأوثان-: ما أنتم أيها المشركون بالله الآلهة والأنداد إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة بمستجيرين بشيء غير الله في حال شدّة الهول النازل بكم من آلهة ووثن وصنم, بل تدعون هناك ربكم الذي خلقكم وبه تستغيثون وإليه تفزعون دون كل شيء غيره. فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إلَيْهِ يقول: فيفرّج عنكم عند استغاثتكم به وتضرّعكم إليه عظيم البلاء النازل بكم إن شاء أن يفرّج ذلك عنكم؛ لأنه القادر على كلّ شيء ومالك كلّ شيء دون ما تدعونه إلها من الأوثان والأصنام. {وتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ}: وتنسون حين يأتيكم عذاب الله أو تأتيكم الساعة بأهوالها ما تشركونه مع الله في عبادتكم إياه, فتجعلونه له ندّا من وثَن وَصَنم, وغير ذلك مما تعبدونه من دونه وتدعونه إلها.

     {وتنسون ما تشركون} قيل: عند نزول العذاب. وقال الحسن: أي تعرضون عنه إعراض الناسي، وذلك لليأس من النجاة من قبله؛ إذ لا ضرر فيه ولا نفع. وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى وتتركون.

     وهو تعريض بالحث على خلع الشرك؛ إذ ليس لشركائهم نفع بأيديهم، فذكروا بأحوال قد تعرض لهم يلجؤون فيها إلى الله، وألقي عليهم سؤال أيستمرون على الإشراك بالله في تلك الحال؟ وهل يستمرون من الآن على الشرك إلى أن يأتيهم العذاب أو تأتيهم القيامة حين يلجؤون إلى الإيمان بوحدانيته، ولات حين إيمان. وافتتح هذا التهديد بالأمر بالقول اهتماما به وإلا فإن معظم ما في القرآن مأمورٌ الرسول – صلى الله عليه وسلم – بأن يقوله لهم.

     وقوله: {أرأيتكم} تركيب شهير الاستعمال، يفتتح بمثله الكلام الذي يراد تحقيقه والاهتمام به، وهمزة الاستفهام فيه للاستفهام التقريري.

     أي أتعرضون عن دعاء الله فتدعون غيره دونه كما هو دأبكم الآن، فالقصر لحكاية حالهم لا لقصد الرد على الآخر، وقد دل الكلام على التعجب، أي تستمرون على هذه الحال، والكلام زيادة في الإنذار.

     وجملة: (إن كنتم صادقين) مستأنفة، وجوابها محذوف دل عليه قوله: {أرأيتكم} الذي هو بمعنى التقرير. فتقدير الجواب: {إن كنتم صادقين} فأنتم مقرون بأنكم لا تدعون غير الله، ذكرهم في هذه الآية وألجأهم إلى النظر ليعلموا أنه إذا أراد الله عذابهم لا تستطيع آلهتهم دفعه عنهم ، فهم إن توخّوا الصدق في الخبر عن هذا المستقبل أعادوا التأمّل فلا يسعهم إلاّ الاعتراف بأنّ الله إذا شاء شيئاً لا يدفعه غيرُه إلاّ بمشيئته؛ لأنّهم يعترفون بأنّ الأصنام إنَّما تقرّبهم إلى الله زلفى ، فإذا صدقوا وقالوا : أندعوا الله ، فقد قامت الحجّة عليهم من الآن؛ لأنّ من لا يغني في بعض الشدائد لا ينبغي الاعتماد عليه في بعض آخر.

     ولذلك كان موقع {بَل إيّاه تدعون} عقب هذا الاستفهام موقع النتيجة للاستدلال. فحرف (بل) لإبطال دعوة غير الله، أي فأنا أجيب عنكم بأنكم لا تدعون إلا الله، ووجه تولي الجواب عنهم من السائل نفسه أن هذا الجواب عنه، كما تقدم في قوله -تعالى-: {قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُل لِّلَّه} (الأنعام:12).

     وقوله: {فيكشف} عطف على تدعون، وهذا إطماع في رحمة الله لعلهم يتذكرون، ولأجل التعجيل به قدم وتنسون ما تشركون وكان حقه التأخير، فهو شبيه بتعجيل المسرة، ومفعول: تدعون محذوف وهو ضمير اسم الجلالة، أي ما تدعونه. والضمير المجرور بـ(إلى) عائد على ما من قوله ما تدعون أي يكشف الذي تدعونه إلى كشفه، وإنما قيد كشف الضر عنهم بالمشيئة؛ لأنه إطماع لا وعد.

     وفي وقوله: إن شاء إشارة إلى مقابله، وهو إن لم يشأ لم يكشف، وذلك في عذاب الدنيا، ومما كشفه الله عنهم من عذاب الدنيا عذاب الجوع الذي في قوله -تعالى-: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ  هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} (الدخان)، فسرت البطشة بيوم بدر.

     وقوله: {وتنسون ما تشركون} يجوز أن يكون النسيان على حقيقته، أي تذهلون عن الأصنام؛ لما ترون من هول العذاب، وما يقع في نفوسهم من أنه مرسل عليهم من الله؛ فتنشغل أذهانهم بالذي أرسل العذاب، وينسون الأصنام التي اعتادوا أن يستشفعوا بها.