(ليس من رأى كمن سمع)

       نسمع عن تزاحم العامة على الأضرحة، وتدافعهم للمس القفص الفضي المحيط بالضريح، ورفع أطفالهم على أكتافهم؛ ليمكنوهم من لمسه! ولكن عندما ترى هذا المنظر حقيقة، ينعقد لسانك، وتصاب بالذهول من هول الموقف، لماذا تتوجهون بالرجاء والخوف لهذا الضريح؟

       لماذا ترجون منه أن يجلب لكم نفعا أو يدفع عنكم ضرا؟ لماذا تقدمون له النذور وتدعونه تضرعا وخشية؟ لماذا تذرفون عنده الدموع وتظهرون له الانكسار؟ نعم، هذه العبادة التي نهى الله أن تصرف لغيره، هذا هو الشرك الأكبر بعينه، الذي قال الله -تعالى- عنه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}، وهذا الذي بُعث محمد بن عبدالله – صلى الله عليه وسلم – ليزيله، ويقيم توحيد الله مكانه، هذا ما كان عليه عرب الجاهلية الذين بعث فيهم الرسول – صلى الله عليه وسلم -، إسمع قول الله -تعالى-:  {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (الأعراف:194).

      حاجهم في عبادة الأصنام. (تدعون): تعبدون. (من دون الله) أي من غير الله. وسميت الأوثان عبادا؛ لأنها مملوكة لله مسخرة.  المعنى أن الأصنام مخلوقة مثلكم، ولما اعتقد المشركون أن الأصنام تضر وتنفع، أجراها مجرى الناس؛ فقال: (فادعوهم) ولم يقل فادعوهن. وقال: (عباد)، وقال: (إن الذين) ولم يقل إن التي.  ومعنى (فادعوهم) أي فاطلبوا منهم النفع والضر.

       (العبد) أطلق في اللسان على المخلوق: كما في قوله -تعالى-: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} (مريم: 93)، والمشهور أنه لا يطلق إلا على المخلوقات من الآدميين فيكون إطلاقُ العباد على الأصنام كإطلاق ضمير جمع العقلاء عليها بناء على الشائع في استعمال العرب يومئذ من الإطلاق. وهو اطلاق تهكم واستهزاء بالمشركين، يعني أن قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء فلو بلغوا تلك الحالة لما كانوا إلا مخلوقين مثلكم ، قال: ولذلك أبطل أن يكونوا عباداً بقوله: {ألهم أرجل} (الأعراف: 195) إلى آخره.

       وفرع على المماثلة أمر التعجيز بقوله {فادعوهم} فإنه مستعمل في التعجيز؛ لأن الدعاء نفسه ممكن ولكن استجابته لهم ليست ممكنة، فإذا دعوهم فلم يستجيبوا لهم تبين عجز الآلهة عن الاستجابة لهم، وعجز المشركين عن تحصيلها مع حرصهم على تحصيلها لإقامة حجتهم، فكان ظهور عجز الأصنام عن الاستجابة لعبادها إلى إثبات عجز المشركين عن نهوض حجتهم لتلازم العجزين، قال -تعالى-: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} (فاطر : 14). والأظهر أن المراد بالدعوة المأمور بها الدعوة للنصر والنجدة.

      وقوله -تعالى-: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ} (الأعراف:195)، تأكيدا لما تضمنته الجملة قبلها من أمر التعجيز وثبوت العجز؛ لأنه إذا انتفت عن الأصنام أسباب الاستجابة تحقق عجزها عن الإجابة، وتأكد معنى أمر التعجيز المكني به عن عجز الأصنام وعجز عبدتها، والاستفهام إنكاري.

      ووصف (الأرجل) بـ(يمشون) و(الأيدي) بـ(يبطشون) و(الأعين) بـ(يبصرون) و(الآذان) بـ(يسمعون) إما لأن بعض تلك الأصنام كانت مجعولة على صور الآدميين مثل هبل، وذي الكفين، وكعيب في صور الرجال، ومثل سواع كان على صورة امرأة، فإذا كان لأمثال أولئك صور أرجل وأيد وأعين وآذان، فإنها عديمة العمل الذي تختص به الجوارح، فلا يطمع طامع في نصرها، وخص الأرجل والأيدي والأعين والآذان؛ لأنها آلات العلم والسعي والدفع للنصر، ولهذا لم يذكر الألسن لما علمت من أن الاستجابة مراد بها النجدة والنصرة، ولم يكونوا يسألون عن سبب الاستنجاد، ولكنهم يسرعون إلى الالتحاق بالمستنجد.

       وترتيب هذه الجوارح الأربع على حسب ما في الآية ملحوظ فيه أهميتها بحسب الغرض، الذي هو النصر والنجدة، فإن الرجلين تسرعان إلى الصريخ قبل التأمل، واليدين تعملان عمل النصر وهو الطعن والضرب، وأما الأعين والآذان فإنهما وسيلتان لذلك كله فأخرا، وإنما قدم ذكر الأعين هنا على خلاف معتاد القرآن في تقديم السمع على البصر كما سبق في أول سورة البقرة؛ لأن الترتيب هنا كان بطريق الترقي.

       ثم ختم -سبحانه- هذا السياق بقوله: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ}، إذن من الله لرسوله بأن يتحداهم بأنهم إن استطاعوا استصرخوا أصنامهم لتتألب على الكيد للرسول – صلى الله عليه وسلم -، والمعنى ادعوا شركاءكم لينصروكم علي فتستريحوا مني، أي فإذا تمكنتم من إضراري فأعجلوا ولا تؤجلوني، وفي هذا التحدي تعريض بأنه سيغلبهم وينتصر عليهم ويستأصل آلهتهم، وقد تحداهم بأتم أحوال النصر وهي الاستنصار بأقدر الموجودات في اعتقادهم، ولا ينتظر، فإذا لم يتمكنوا من ذلك كان انتفاؤه أدل على عجز آلهتهم.