– لقد أقام الله الحجة على الناس جميعا، فلا حجة لأحد عند الله عندما يبعث ويقف بين يدي الله للحساب، لا عذر، أرسل الرسل وأنزل الكتاب، وأقام الحجة: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (النساء:165)، وبعد خاتم الأنبياء، بقي كتاب الله حجة على الناس، حفظه الله، وجعل آياته بينات مفصلات، لا يحتج أحد بسبب للشرك إلا دمغته الآيات البينات؛ لأن أعذار الكفار وحججهم مكررة، لا جديد فيها، من أنكر البعث، أقام الله عليه الحجة، ومن أشرك بالله، أقام الله عليه الحجة، ومن كفر بالرسل أقام الله عليه الحجة، وبعد إقامة الحجج ودحض الشبه، يتحداهم الله بأيات بينات، لا يمكن لهم إلا أن يعلنوا عجزهم وضلالهم.

ومن هذه الآيات، ما جاء في سورة الملك (المنجية) قوله – تعالى:

{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ}.

بعد استيفاء غرض إثبات الإلهية الحق لله -تعالى- بالوحدانية، وتذكيرهم بأنهم مفتقرون إليه، انتقل إلى إبطال أن يكون أحد يدفع عنهم العذاب الذي توعدهم الله به، فوُجه إليهم استفهام أن يدلّوا على أحد من أصنامهم أو غيرها يقال فيه هذا هو الذي ينصر من دون الله، فإنهم غير مستطيعين تعيين أحد لذلك، إلاّ إذا سلكوا طريق البهتان وما هم بسالكيه في مثل هذا لافتضاح أمره. وهذا الكلام ناشىء عن قوله: {أأمنتم من في السماء} (الملك: 16) الآية. والاستفهام مستعمل في التعجيز عن التعيين فيؤول إلى الانتفاء، والإشارة مشار بها إلى مفهوم {جند} مفروض في الأذهان استُحضر للمخاطبين، فجعل كأنه حاضر في الخارج يشاهده المخاطبون، فيطلب المتكلم منهم تعيين قبيله بأن يقولوا: بنو فلان. ولما كان الاستفهام مستعملاً في التعجيز استلزم ذلك أن هذا الجند المفروض غير كائن. وقريب من ذلك قوله –تعالى-: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} ( البقرة: 255) ونحوه. وكتب في المصحف {أمَّن} بميم واحدة بعد الهمزة وهما ميم (أم) وميم (مَن) المدغمتين بجعلهما كالكلمة الواحدة كما كتب {عمّ يتساءَلون} (النبأ: 1). بميم واحدة بعد العين، ولا تقرأ إلاّ بميم مشددة؛ إذ المعتبر في قراءة القرآن الرواية دون الكتابة وإنما يكتب القرآن للإعانة على مراجعته.

ويجوز أن يكون اسم الإشارة مشاراً به إلى جماعة الأصنام المعروفة عندهم الموضوعة في الكعبة وحولَها الذي اتخذتموه جنداً فمَن هو حتى ينصرَكم من دون الله؟! فتكون (مَنْ) استفهامية مستعملة في التحقير، أي من هذا الجند فإنه أحقر من أن يعرف.

وجيء بالجملة الاسمية {الذي هو جند لكم} لدلالتها على الدوام والثبوت؛ فالمعنى: ينصركم عند احتياجكم إلى نصره، و{دون} أصله ظرف للمكان الأسفل ضِد (فَوق)، ويطلق على المغاير فيكون بمعنى غير.

فقوله: {مِن دون الرحمن} يجوز أن يكون ظرفاً مستقراً في موضع الحال من الضمير المستتر في {ينصركم}. أي حالة كون الناصر من جانب غير جانب الله، أي مَن مستطيع غير الله يدفع عنكم السوء على نحو قوله تعالى: {أم لهم ءالهة تمنعهم من دوننا} (الأنبياء: 43).

وتكرير وصف {الرحمن} هنا دون لفظ الجلالة (الله) بخلاف ما في سورة (النحل:79) {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، تأكيدا لقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ}.

فمن جملة عنادهم إنكارهم اسم {الرحمن} فلما لم يرعووا عما هم عليه ذكر وصف {الرحمن} في هذه السورة أربع مرات.

وذيل هذا بالاعتراض بقوله: {إن الكافرون إلا في غرور}، أي ذلك شأن الكافرين كلهم وهم أهل الشرك من المخاطبين وغيرهم، أي في غرور من الغفلة عن توقع بأس الله -تعالى-، أو في غرور من اعتمادهم على الأصنام فكما غر الأمم السالفة دينهم بأن الأوثان تنفعهم وتدفع عنهم العذاب فلم يجدوا ذلك منهم وقت الحاجة فكذلك سيقع لأمثالهم، قال -تعالى-: {وللكافرين أمثالها} (محمد:10)، {وقال أكفاركم خير من أولئكم} (القمر:43)، فتعريف (الكافرون) للاستغراق.

– والغرور: ظن النفس وقوع أمر نافع لها بمخائل تتوهمها، وهو يخلاف ذلك أو هو غير واقع، وتقدم في قوله -تعالى-: {يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا} في الأنعام (112)، وقوله: {فلا تغرنكم الحياة الدنيا} (في سورة فاطر:5). والمعنى: ما الكافرون في حال من الأحوال إلا في حال الغرور، وهذا لقلب اعتقادهم أنهم في مأمن من الكوارث بحماية آلهتهم.

{أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه} انتقال آخر والكلام على أسلوب قوله: {أمن هذا الذي هو جند لكم} (الملك:20)، وهذا الكلام ناظر إلى قوله: {وكلوا من رزقه} (الملك:15).

والرزق: ما ينتفع به الناس، ويطلق على المطر، وعلى الطعام، كما تقدم في قوله -تعالى-: {وجد عندها رزقا} (آل عمران:37).

وجيء بالفعل مضارعا {يرزقكم} لدلالته على التجدد؛ لأن الرزق يقتضي التكرار إذ حاجة البشر إليه مستمرة.

{بل لجوا في عتو ونفور}، وقع جوابا عن سؤال ناشيء عن الدلائل والقوارع والزواجر والعظات والعبر المتقدمة ابتداء من قوله: {الذي خلق الموت والحياة} (الملك:2) إلى هنا، فيتجه للسائل أن يقول: لعلهم نفعت عندهم الآيات والنذر، واعتبروا بالآيات والعبر، فأجيب بإبطال ظنه بأنهم {لجوا في عتو ونفور}.

و{بل} للانتقال من غرض التعجيز إلى الإخبار عن عنادهم.

– يقال: {لج} في الخصومة من باب سمع، أي أشتد في النزاع والخصام، أي استمروا على العناد يكتنفهم العتو والنفور، أي لا يترك مخلصا للحق إليهم، والعتو: التكبر والطغيان. والنفور: هو الاشمئزاز من الشيء والهروب منه.

والمعنى: اشتدوا في الخصام متلبسين بالكبر عن اتباع الرسول حرصا على بقاء سيادتهم وبالنفور عن الحق لكراهية ما يخالف أهواءهم وما ألفوه من الباطل.