القرآن هو الكلام الذي أوحاه الله -تعالى- كلاما عربيا إلى محمد – صلى الله عليه وسلم – بواسطة جبريل على أن يبلغه الرسول – صلى الله عليه وسلم – للناس كافة، باللفظ الذي أوحي به إليه للعمل به، ولقراءة ما تيسر منه في صلواتهم، وجعل قراءاته عبادة، وجعله آية على صدق الرسول – صلى الله عليه وسلم – في دعواه الرسالة عن الله إلى الخلق كافة، وتحدى منكريه خاصة، والإنس والجنس عامة، أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله أو بسورة واحدة، فلم يستطيعوا، وهم أرباب الفصاحة ومظنة المعارضة، ويبقى التحدي، قائما على مر العصور، والدهور، ولكن المنطق يقول: إذا عجز أصحاب المعلقات، وأرباب اللغات فغيرهم لا شك أعجز!

والقرآن لا يتحدى المنكرين والمعارضين بجمال الألفاظ وبديع النظم وبلاغة الكلمات، فحسب، بل يتحداهم بالمنطق، والحجة ثم بالإهلاك والعذاب في الدنيا، ويبين مآلهم في الآخرة، وهم يعلمون أنهم آيلون إلى ذلك دون شك، ولكن لا يؤمنون!

ألم يخبر الله -عز وجل- أبا لهب (عم النبي – صلى الله عليه وسلم -) أنه سيدخل النار هو وامرأته (أم جميل)، لماذا لم يؤمنا ليثبتا كذب القرآن؟! وهكذا مع كبار الكفرة، إبليس وفرعون، وقوم نوح، وقوم عاد ومن بعدهم.

– من الآيات التي تحدى بها الله -عز وجل- كل من يتخذ إلها مع الله، وكل من يعبد شيئا من دون الله، قديما ومستقبلا قوله -عز وجل-: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}.

كانت هذه مقدمة المحاضرة التي ألقاها الأستاذ الدكتور (أبو أنس) عن بُعدٍ، وقد تجاوز عدد المشاركين ألفي متابع، وكنت وصاحبي نتابع المحاضرة في مكتبي، بعد صلاة المغرب.

     بيّن الشيخ تفسير هذه الآية قائلاً: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (النحل:17-21).

     بعد أن أقيمت الدلائل على انفراد الله بالخلق ابتداء من قوله -تعالى-: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (النحل:3)، وثبتت المنة وحُقَّ الشكرُ، فرَّع على ذلك هاتين الجملتين لتكونا كالنتيجتين للأدلة السابقة إنكارا على المشركين، فالاستفهام عن المساواة إنكاري، أي لا يستوي من يخلق بمن لا يخلق، وحين كان المراد بمن لا يخلق الأصنام كان إطلاق «من» الغالبة في العاقل مشاكلة لقوله أفمن يخلق.

فالاستفهام في قوله: {أفلا تذكرون} مستعمل في الإنكار على انتفاء التذكر، وذلك يختلف باختلاف المخاطبين، فهو إنكار على إعراض المشركين عن التذكر في ذلك.

     لما عدد الآيات الدالة على الصانع ووحدانيته وكمال قدرته، أراد أن يوبخ أهل الشرك والعناد فقال: أفمن يخلق هذه المصنوعات العظيمة، ويفعل هذه الأفاعيل العجيبة، كمن لا يخلق شيئا منها ولا يقدر على إيجاد واحد منها، وهو هذه الأصنام التي تعبدونها وتجعلونها شركاء لله -سبحانه؟ وفي هذا الاستفهام من التقريع والتوبيخ للكفار ما لا يخفى، وما أحقهم بذلك! فإنهم جعلوا بعض المخلوقات شريكا لخالقهم؛ فتعالى الله عما يشركون، أفلا تذكرون مخلوقات الله الدالة على وجوده وتفرده بالربوبية وبديع صنعته، فتستدلون بها على ذلك؟ فإنها لوضوحها يكفي في الاستدلال بها مجرد التذكر.

     شرع -سبحانه- في تحقيق كون الأصنام التي أشار إليها بقوله: كمن لا يخلق عاجزة على أن يصدر منها خلق شيء؛ فلا تستحق عبادة، فقال: {والذين يدعون من دون الله} أي: الآلهة الذين يدعوهم الكفار من دون الله -سبحانه- صفتهم هذه الصفات المذكورة، وهي أنهم لا يخلقون شيئا من المخلوقات أصلا لا كبيرا ولا صغيرا، ولا جليلا ولا حقيرا وهم يخلقون أي: وصفتهم أنهم يخلقون، فكيف يتمكن المخلوق من أن يخلق غيره؟ ففي هذه الآية زيادة بيان لأنه أثبت لهم صفة النقصان بعد أن سلب عنهم صفة الكمال، بخلاف قوله: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} فإنه اقتصر على مجرد سلب صفة الكمال.

     ثم ذكر ما لأجله أصر الكفار على شركهم فقال: فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة للوحدانية لا يؤثر فيها وعظ ولا ينجع فيها تذكير، وهم مستكبرون عن قبول الحق، متعظمون عن الإذعان للصواب، مستمرون على الجحد، {لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}(النحل: (23 قال الخليل: لا جرم كلمة تحقيق، ولا تكون إلا جوابا، أي: حقا أن الله يعلم ما يسرون من أقوالهم وأفعالهم وما يعلنون من ذلك.

والبعث: حقيقته الإرسال من مكان آخر، ويطلق على إثارة الجاثم.

ومنه قوله: بعثت البعير؛ إذ أثرته من مبركه، وقد غلب البعث في اصطلاح القرآن على إحضار الناس إلى الحساب بعد الموت، فمن كان منهم ميتا بعثه من جدثه.

وأيان اسم استفهام عن الزمان، مركبة من (أي) و(آن) بمعنى أي زمن؟ وهي معلقة لفعل يشعرون عن العمل بالاستفهام، والمعنى: وما يشعرون بزمن بعثهم.