مشكلة غالب الناس أنهم لا يتعظون من غيرهم، وليس من الحكمة ألا يتعظ الإنسان من أخطاء غيره، ولاسيما إذا كانت العواقب مهلكة، وهذا كان أسلوب الأنبياء مع أقوامهم، حتى النبي – صلى الله عليه وسلم -، أمره الله أن يذكر ما حدث للأمم السابقة، حتى لا يكون مصيرهم مثل مصيرهم.

– وهنا تحضرني بعض الآيات.

في سورة الأعراف يذكر الله حوار هود مع قوم (عاد): {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأعراف:69).

ويقول -سبحانه- عن ثمود قوم صالح: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} (الأعراف:74).

     وعن شعيب مع أهل مدين: {وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (الأعراف:86). ويجمل الله الغاية من ذكر الأمم السابقة: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} (الأعراف:101). كنت وصاحبي في جلسة حوارية، في أحد المقاهي القريبة من منزله، وكان الوقت ضحى، وكلانا لم يعد لديه التزام وظيفي -بفضل الله.

– وكما جعل الله الأمم السابقة عبرة للأمة، جعل بعض الأشخاص عبرة للمتكبرين والظالمين والجبابرة، ولعل أشهرهم فرعون، الذي بلغ غروره وكبره أن قال: {أنا ربكم الأعلى}.

– نعم، غرور بعض البشر، يجعله يدعي الألوهية، أستغفر الله، كما فعل {الذي حاج إبراهيم في ربه} (نمرود)، وكما ادعى قارون في جمع أمواله، ولكن حقا لعل فرعون هو المثل الأول في هذا الأمر؛ لأن الله قال عنه: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} (يونس:92)، صدق الله العظيم، أغلب الناس يذهبون ليزوروا أهرامات الفراعنة وقبورهم دون أن يتفكروا في هذه الآية!

– دعني أقرأ لك ما ورد في كتب التفسير:

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (القصص:38).

{فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25)} (النازعات).

{قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} (الشعراء:29).

قوله -تعالى-: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} قال ابن عباس: كان بينها وبين قول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} أربعون سنة، وكذب عدو الله بل علم أن له ثم ربا هو خالقه وخالق قومه.

{فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} أي نكال قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (القصص:38)، وقوله بعد: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (النازعات:24).

– والمعنى: أمهله في الأولى، ثم أخذه في الآخرة، فعذبه بكلمتيه، وقيل: نكال الأولى: هو أن أغرقه، ونكال الآخرة: العذاب في الآخرة، وقاله قتادة وغيره. {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} أي معرضون عن تأمل آياتنا والتفكر فيها، وقرئت «لمن خَلَفَكَ» (بفتح اللام)، أي لمن بقي بعدك يخلفك في أرضك. حشر الناس للحضور، فنادى أي قال لهم بصوت عال {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} أي لا رب لكم فوقي.

     والآلهة جمع إله، ووزنه أفعلة، وكان القبط مشركين يعبدون آلهة متنوعة من الكواكب والعناصر، وصوروا لها صورا عديدة مختلفة باختلاف العصور والأقطار، أشهرها (فتاح) وهو أعظمها عندهم وكان يعبد بمدينة منفيس، ومنها (رع) وهو الشمس وتتفرع عنه آلهة باعتبار أوقات شعاع الشمس، ومنها (ازيريس) و(إزيس) و(هوروس) وهذا عندهم ثالوث مجموع من أب وأم وابن، ومنها (توت) وهو القمر وكان عندهم رب الحكمة، ومنها (أمون رع) فهذه الأصنام المشهورة عندهم هي أصل إضلال عقولهم. وكانت لهم أصنام فرعية صغرى عديدة مثل العجل (إيبيس) ومثل الجعران وهو الجُعلُ.

     وتوعد فرعون موسى وقومه بالاستئصال بقتل الأبناء والمراد الرجال بقرينة مقابلته بالنساء. وعلا فرعون في الأرض علو طاغية من البشر على غيره من البشر المستضعفين، وقال الحق -سبحانه- على لسان فرعون: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (الزخرف:51).

– إذًا: فقد كان فرعون مسرفا أشد الإسراف. وعندما ذكر الله إيمان السحرة بين أن بعضهم قال {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} (طه:70)، ووبعضهم: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} (الشعراء). مع استحضار قول فرعون أنا ربكم الأعلى فربما يفهم من قولهم: {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}، أنه فرعون، فهو الذي ربى موسى وهو صغير كما قال -تعالى:{أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} وآخر قد فطن إلى هذه المسألة، فكان أدق في التعيبر، فقال: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} (طه:70)، وجاء أولا بهارون الذي لا علاقة لفرعون بتربيته، ولا فضل له عليه، ثم جاء بعده بموسى -عليه السلام.