ما زال الحديث موصولا عن تعامل الناس مع جائحة كورونا وقلنا أنهم تعاملوا معها بظاهرها المادي وغفلوا عن الآيات والعبر من ورائها، وتناولنا قول الله -تعالى-: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} (الأنعام:46-47).

     لما غمرهم بالأدلة على الوحدانية وصدق الرسول، وأبطل شبههم عقب ذلك كله بالتعجب من قوة الأدلة مع استمرار الإعراض والمكابرة، وقد تقدم قريبا منه عند قوله -تعالى-: {انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} (النساء:50). وهذا تذكير لهم بأن الله هو خالق أسماعهم وأبصارهم وألبابهم؛ فما كان غيره جديرا بأن يعبدوه.

     و(تصريف الآيات) اختلاف أنواعها بأن تأتي مرة بحجج من مشاهدات في السماوات والأرض، وأخرى بحجج من دلائل في نفوس الناس، ومرة بحجج من أحوال الأمم الخالية التي أنشأها  الله، فالآيات هنا هي دلائل الوحدانية، فهي متحدة في الغاية مختلفة الأساليب متفاوتة في الاقتراب من تناول الأفهام عامها وخاصها، وهي أيضا مختلفة في تركيب دلائلها من جهتي الترغيب والترهيب ومن التنبيه والتذكير؛ بحيث تستوعب الإحاطة بالأفهام على اختلاف مدارك العقول.

و(ثم) للترتيب وهو هنا التعجيب من قوة الأدلة وأن استمرار الإعراض والمكابرة مع ذلك أجدر بالتعجيب به.

وجيء في جملة (هم يصدفون) فعلا مضارعا للدلالة على تجدد الإعراض منهم.

وفي قوله -سبحانه-: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} (الأنعام:47).

استئناف للتهديد والتوعد وإعذار لهم بأن إعراضهم لا يرجع بالسوء إلا عليهم ولا يضر بغيرهم، كقوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (الأنعام:26).

     وجيء بـ(أرأيتكم) دون قوله (أرأيتم)؛ لأن هذا ونظيره أبلغ في التوبيخ، ولأنهما أظهر في الاستدلال على كون المشركين في مكنة قدرة الله، فإن إتيان العذاب وقوعا من سلب الأبصار والأسماع والعقول لندرة حصول ذلك، فكان والتوبيخ على إهمال الحذر من إتيان عذاب الله، أقوى من التوبيخ على الاطمئنان من أخذ أسماعهم وأبصارهم.

     و(الجهرة): ضد الخفية، وضد السر، وقد تقدم عنه قوله -تعالى-: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} (البقرة:55). وقد أوقع الجهرة هنا في مقابلة البغتة وكان الظاهر أن تقابل البغتة بالنظرة أو أن تقابل الجهرة بالخفية، إلا أن البغتة لما كانت وقوع الشيء من غير شعور به كان حصولها خفيا فحسن مقابلته بالجهرة، فالعذاب الذي يجيء بغتة هو الذي لا تسبه علامة ولا إعلام به، والذي يجيء جهرة هو الذي تسبقه علامة مثل الكسف المحكي في قوله -تعالى-: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} (الأحقاف:24). أو يسبقه إعلام به كما في قوله -تعالى-: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} (هود:65). والاستفهام في قوله: (هل يهلك) مستعمل في الإنكار فلذلك جاء بعده الاستثناء، والمعنى لا يهلك بذلك العذاب إلا الكافرون.

والمراد بـ(القوم الظالمين) المخاطبون أنفسهم فأظهر في مقام الإضمار ليأتي وصفهم أنهم ظالمون، أي مشركون، لأنهم ظالمون لأنفسهم وظالمون للرسول والمؤمنين.