– عقيدة ينبغي أن تكون راسخة في قلب كل مسلم، وهي أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – هو أكرم الخلق على الله، وأنه أعلم الخلق بالله وأخشاهم له، وألا منزلة لمخلوق عند الله أرفع من منزلته – صلى الله عليه وسلم .

– وهل هناك من يشك في هذه الثوابت؟

– نعم.. بعض من لاحظَّ له من علم ودين يحاول أن يطعن في مقام الرسول – صلى الله عليه وسلم -، ويردد كلامه كل من على شاكلته ممن من اتبع هواه، وزين لهم الشيطان سوء أعمالهم فيحسبون أنهم مهتدون.

– لو تتبع المرء الأساليب التي خاطب الله بها رسوله – صلى الله عليه وسلم – وقرأ كتب التفسير المعتمدة، وأقوال علماء السلف ومن اتبع نهجهم، لوجد في هذه الأساليب من الأعذار والرقة والتربية ما يزيد مكانة النبي رفعة، ومنزلته علوا.

صاحبي طالب علم، وقد أنهى المرحلة الجامعية الأولى من الأزهر، ويسعى الآن لنيل درجة الماجستير، في موضوع يتعلق بالقرآن الكريم، واقترحت عليه (أساليب خطاب الله لرسوله محمد – صلى الله عليه وسلم ).

كنا نتحاور في هذا الموضوع، بين العشائين، في ديوان المسجد. مثلا قول الله -عز وجل-: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} (الكهف:23-24).

إن المشركين لما سألوا النبي – صلى الله عليه وسلم – عن أهل الكهف وذي القرنين وعن الروح وعدهم بالجواب عن سؤالهم من الغد، ولم يقل: «إن شاء الله»، فلم يأتيه جبريل -عليه السلام- بالجواب إلا بعد خمسة عشر يوما. وقيل: بعد ثلاثة أيام، فكان تأخير الوحي إليه بالجواب عتابا رمزيا من الله لرسوله – صلى الله عليه وسلم -، كما عاتب سليمان -عليه السلام- فيما رواه البخاري: «أين سليمان قال: لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل واحدة ولدا، ولا يقاتل في سبيل الله، فلم تحمل منهن إلا واحدة ولدت شق غلام».

وقد جمعت هذه الآية كرامة للنبي – صلى الله عليه وسلم – من ثلاث جهات:

– الأولى: أنه أجاب سؤله، فبين لهم ما سألوه إياه على خلاف عادة الله مع المكابرين.

– الثانية: أنه علمه علما عظيما من أدب النبوة.

– الثالثة: أنه ما علمه ذلك إلا بعد أن أجاب سؤله استئناسا لنفسه ألا يبادره بالنهي عن ذلك قبل أن يجيبه، كيلا يتوهم أن النهي يقتضي الإعراض عن إجابة سؤاله، وكذلك شأن تأدیب الحبيب المكرم. ومثاله ما في الصحيح: أن حكيم بن حزام قال: «سألت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطانی، ثم قال: يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة؛ فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى. قال حكيم: یا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا». فعلم حكيم أن قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – له ذلك ليس القصد منه منعه من سؤله، وإنما قصد منه تخليقه بخلق جمیل؛ فلذلك أقسم حكيم: ألا يأخذ عن أحد غير رسول الله – صلى الله عليه وسلم – شيئا، ولم يقل: لا أسألك بعد هذه المرة شيئا.

وغدا مستعمل في المستقبل مجازا. وليست كلمة (غدا) مرادا بها اليوم الذي يلي يومه، ولكنه مستعمل في معنى الزمان المستقبل، كما يستعمل اليوم بمعنی زمان الحال، والأمس بمعنی زمن الماضي. وقد جمعها قول زهير:

وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكني عن علم ما في غد عم

وفي تعريف الجلالة بلفظ الرب مضافا إلى ضمير المخاطب دون اسم الجلالة العلم من كمال الملاطفة ما لا يخفی.

{وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} لما أبر الله وعد نبيه – صلى الله عليه وسلم – الذي وعده المشركين أن يبين لهم أمر أهل الكهف؛ فأوحاه إليه وأوقفهم عليه، أعقب ذلك بعتابه على التصدي لمجاراتهم في السؤال عما هو خارج عن غرض الرسالة دون إذن من الله، وأمره أن يذكر نهي ربه، ويعزم على تدريب نفسه على إمساك الوعد ببيان ما يُسأل منه بيانُه دون أن يأذنه الله به، أمره هنا أن يخبر سائليه بأنه ما بعث للاشتغال بمثل ذلك، وأنه يرجو أن الله يهديه إلى ما هو أقرب إلى الرشد من بيان أمثال هذه القصة، وإن كانت هذه القصة تشتمل على موعظة وهدی ولكن الهدى الذي في بيان الشريعة أعظم وأهم، والمعنی: {وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا}. أي: قل یا محمد: عسى أن يوفقني ربي لشيء أقرب من هذا النبأ من الآيات والدلائل الدالة على نبوتي.

فلم يعاتبه بترك قول (إن شاء الله) أو تذكيره بها إلا بعد الإجابة عن قصة أهل الكهف، وفي نهايتها ذكره بها بقوله -تعالى-: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} وهذا منتهى التلطف والتكريم والتنبيه على أمر ينبغي أن يكون الأمر عليه، ولو نبهه أولا ثم أجاب عن الاستفسارات لتوهم الإعراض عنه، ولربما لم يزل أثره بفرح الحصول على الإجابة، وفي ذلك إلحاق غم وكمد بقلب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، أما إذا جاء الجواب أولا وتمت الفرحة والبشارة بالحصول على الجواب، وأثناء الابتهاج سيق التنبيه بأسلوب لطيف لم يترك العتاب والتنبيه أثرا يذكر.

– كلام جميل، يتناسب مع ما ذكرت في بداية حديثنا أن عتاب الله لرسوله – صلى الله عليه وسلم – فيه من اللطف واللين والمراعاة، ما بيّن مكانة الرسول – صلى الله عليه وسلم – عند الله، وكل ما يخطر على قلب أحد خلاف ذلك ينبغي أن يزول بالاطلاع على قول العلماء، وكتب التفسير التي سطرت على منهج السلف الصالح.