مازال الحديث موصولاً عن تدبر الآيات من سورة فصلت والتي تتحدث عن مصير الأمم التي تتحدى الله -عزوجل-، ووقفنا عند قوله تعالى:{فاستكبروا في الأرض بغير الحق}، وقوله: بغير الحق زيادة تشنيع لاستكبارهم؛ فإن الاستكبار لا يكون بحق؛ إذ لا مسوغ للكبر بوجه من الوجوه؛ لأن الأمور المغريات بالكبر من العلم والمال والسلطان والقوة وغير ذلك لا تبلغ الإنسان مبلغ الخلو عن النقص، وليس للضعيف الناقص حق في الكبر؛ ولذلك كان الكبر من خصائص الله -تعالى.

وهم قد اغتروا بقوة أجسامهم وعزة أمتهم، وادعوا أنهم لا يغلبهم أحد، وهو معنى قوله: {من أشد منا قوة}، فقولهم ذلك سبب استكبارهم؛ لأنه أورثهم الاستخفاف بمن عداهم، فلما جاءهم هود بإنكار ما هم عليه من الشرك والطغيان عظم عليهم ذلك؛ لأنهم اعتادوا العجب بأنفسهم وأحوالهم؛ فكذبوا رسولهم.

فلما كان اغترارهم بقوتهم باعثَهم على الكفر وكان قولهم: {من أشد منا قوة} دليلا عليه خص بالذكر.

وإجراء وصف الذي خلقهم على اسم الجلالة؛ لما في الصلة من الإيماء إلى وجه الإنكار عليهم لجهلهم بأن الله أقوى منهم؛ فإن كونهم مخلوقين معلوم لهم بالضرورة، فكان العلم به كافيا في الدلالة علي أنه أشد منهم قوة، وأنه حقيق بأن يحسبوا لغضبه حسابه فينظروا في أدلة صدق رسوله إليهم. ولم يذكر القرآن لهود آيات سوى أنه أنذرهم عذابا يأتيهم من السماء، قال -تعالى-: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الأحقاف:24)، فذلك من تكذيبهم بأوائل الآيات.

ويحتمل أن المراد بالآيات دلائل الوحدانية التي في دعوة رسولهم، وتذكيرهم بنعم الله عليهم كقوله -تعالى-: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} (الأعراف:69)، وقوله: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (الشعراء:132-134).

فأهلكهم الله بما لا يترقب الناس الهلاك به فإن الناس يقولون للشيء الذي لا يؤبه به: هو ريح، ليريهم أن الله شديد القوة، وأنه يضع القوة في الشيء الهين، مثل: الرياح، ليكون عذابا وخزيا، أي تحقيرا كما قال: {لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا}، وأي خزي أشد من أن تتراماهم الريح في الجو كالريش، وأن تلقيهم هلكى على التراب عن بكرة أبيهم، فيشاهدهم المارون بديارهم جثثا صرعى، قد تقلصت جلودهم، وبليت أجسامهم كأنها أعجاز نخل خاوية.

قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «نصرت بالصَّبا (أي بريح تأتي من الشرق) وأهلكت عاد بالدبور (أي بريح تأتي من الغرب)» (متفق عليه).

فمعنى وصف الأيام بالنحسات: أنها أيام سوء شديد أصابهم، وهو عذاب الريح، وهي ثمانية أيام كما جاء في قوله -تعالى-: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} (الحاقة:7)، فالمراد: أن تلك الأيام بخصوصها كانت نحسا، وأن نحسها عليهم دون غيرهم من أهل الأرض؛ لأن عادا هم المقصودون بالعذاب.

ولما كان حال الأمتين واحدا في عدم قبول الإرشاد من جانب الله -تعالى- كما أشار إليه قوله -تعالى-: {لو شاء ربنا لأنزل ملائكة} (فصلت:14)، كان الإخبار عن ثمود بأن الله هداهم مقضيا أنه هدى عادا مثل هدى ثمود، وأن عادا استحبوا العمى على الهدى مثلما استحبت ثمود.

والمعنى: وأما ثمود فهديناهم هداية إرشاد برسولنا إليهم، وتأييده بآية الناقة التي أخرجها لهم من الأرض.

فأخذتهم صاعقة العذاب الهون، وكان العقاب مناسبا للجرم؛ لأنهم استحبوا الضلال الذي هو مثل العمى، فمن يستحبه فشأنه أن يحب العمى، فكان جزاؤهم بالصاعة؛ لأنها تعمي أبصارهم حين تهلكهم، والعذاب هو: الإهلاك بالصعق، ووصف بالهون كما وصف العذاب بالخزي في قوله: {لنذيقهم الخزي} (فصلت:16)، أي العذاب الذي هو سبب الهون، والهون: الهوان وهو الذل، ووجه كونه هوانا أنه إهلاك فيه مذلة؛ إذ استؤصلوا عن بكرة أبيهم، وتركوا صرعى على وجه الأرض كما بيناه في مهلك عاد، أي أخذتهم الصاعة بسبب كسبهم في اختيارهم البقاء على الضلال بإعراضهم عن دعوة رسولهم وعن دلالة آياته.

ويعلم من قوله في شأن عاد: {ولعذاب الآخرة أخزى} (فصلت:16) أن لثمود عذابا في الآخرة؛ لأن الأمتين تماثلتا في الكفر، فلم يذكر ذلك هنا اكتفاء بذكره فيما تقدم.