– في آيات كثيرة، يأمر الله الخلق بـ(النظر)، و(الرؤية)، وذلك للاعتبار والاتعاظ، وقبول الحق واتباعه، لما فيه خيرهم.

{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} (الأنعام:6).

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} (العنكبوت:67). {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (آل عمران:137).

{لَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (النحل:36). وفي هذه الآيات (تهديد ضمني)، بأنهم إن لم يعتبروا بمن سبقهم، سيكون مآلهم مآل من سبقهم.

كنت وصاحبي في طريقنا لقضاء يوم مع مجموعة من الأصدقاء في صحراء المنطقة الجنوبية من الكويت، بعثوا لنا موقعهم؛ لأنهم غادروا قبل التاسعة صباحا، ونحن اضطررنا للانتظار إلى صلاة الظهر، لارتباط صاحبي بالإمامة في المسجد. وفي آيات أخرى كثيرة (يتحدى) الله الخلق، بأنه هو -سبحانه- (الخالق) ولا خالق سواه، وأنه (المتصرف) بهذا الكون ولا أحد سواه، وأنه المحيي -سبحانه-، ويقيم الحجة والبرهان، بما يراه الناس ويعلمونه.

يقول -تعالى-: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)} (الواقعة).

معنى: {أفرأيتم}: أخبروني، وذكرت كائنات أربعة مختلفة الأحوال متحدة المآل؛ إذ في كلها تكوين لموجود مما كان عدما، وفي جميعها حصول وجود متدرج إلى أن تتقوم بها الحياة وهي: خلق الإنسان والنبات والماء والنار.

وقد حصل من نفي الخلق عنهم وإثباته لله -تعالى- قصر الخلق على الله -تعالى. ومناسبة الانتقال من الاستدلال بخلق النسل إلى الاستدلال بنبات الزرع هي التشابه البيِّن بين تكوين الإنسان وتكوين النبات، قال -تعالى-: {والله أنبتكم من الأرض نباتا} (نوح:17).

والقول: في {أفرأيتم ما تمنون} (الواقعة:58). {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}، فنفى عنهم الزرع ونسبه إلى نفسه، فالمعنى: أفرأيتم الذي تحرثون الأرض لأجله، وهو النبات ما أنتم تنبتونه بل نحن ننبته. وكذلك القول في نفي الزرع عنهم وإثباته لله -تعالى- يفيد معنى قصر الزرع، أي الإنبات على الله -تعالى-، أي دونهم، وهو قصر مبالغة لعدم الاعتداد بزرع الناس.

والحطام: الشيء الذي حطمه حاطم، أي كسره ودقه فهو بمعنى المحطوم.

والمعنى: لو نشاء لجعلنا ما ينبت بعد خروجه من الأرض حطاما بأن نسلط عليه ما يحطمه من برد أو ريح أو حشرات قبل أن تنتفعوا به، فالمراد جعله حطاما قبل الانتفاع به.

قال الكسائي: هو تلهف على ما فات، وهو -أي فعل تفكهون- من الأضداد تقول العرب: تفكهت، أي تنعمت، وتفكهت، أي حزنت، وعن ابن عطية: الذي يخص اللفظة هو تطرحون الفاكهة (كذا ولعل صوابه الفكاهة) عن أنفسكم وهي المسرة والجذل، ورجل فكه، إذا كان منبسط النفس غير مكترث بشيء .

وجعلوا جملة إنا لمغرمون تندما وتحسرا، أي تعلمون أن حطم زرعكم حرمان من الله جزاء لكفركم، ومعنى لمغرمون من الغرام وهو الهلاك كما في قوله -تعالى-: {إن عذابها كان غراما} (الفرقان:65).

ومناسبة الانتقال أن الحرث إنما ينبت زرعه وشجره بالماء؛ فانتقل من الاستدلال بتكوين النبات إلى الاستدلال بتكوين الماء الذي به حياة الزرع والشجر، ووصف الماء بالذي تشربون إدماج للمنة في الاستدلال، أي الماء العذب الذي تشربونه، فإن شرب الماء من أعظم النعم على الإنسان ليقابل بقوله بعده: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} (الواقعة:70)، ووجه الاستدلال إنشاء ما به الحياة بعد أن كان معدوما بأن كونه الله في السحاب بحكمة تكوين الماء، فكما استدل بإيجاد الحي من أجزاء ميتة في خلق الإنسان والنبات استدل بإيجاد ما به الحياة عن عدم تقريبا لإعادة الأجسام بحكمة دقيقة خفية.

وقوله: {أأنتم أنزلتموه من المزن} جعل استدلالا منوطا بإنزال الماء من المزن، على طريقة الكناية بإنزاله، عن تكوينه صالح للشراب، لأن إنزاله هو الذي يحصل منه الانتفاع به ولذلك وصف بقوله: {الذي تشربون}، وأعقب بقوله {لو نشاء جعلناه أجاجا} (الواقعة:70)، فحصل بين الجملتين احتباك كأنه قيل: أأنتم خلقتموه عذبا صالحا للشرب وأنزلتموه من المزن لو نشاء جعلناه أجاجا ولأمسكناه في سحاباته أو أنزلناه على البحار أو الخلاء فلم تنفعوا به.