– عقيدتنا التي ندين بها دون ريب هي أن رسول الله محمدا – صلى الله عليه وسلم – أتقى الخلق لله، وأعلم الخلق بالله، وأكرم الخلق على الله، وأن الله -عز وجل- اصطفاه لأعظم رسالة، وأنزل إليه أشرف كتاب، وأرسله بأكمل دين، وقد أدى الرسول – صلى الله عليه وسلم – ما أمر به كاملا، وبلغ ما كلفه بلاغا تاما، وكل ما قد يخطر على بال أحد خلاف ذلك فإنه خطأ وسوء فهم.

كنت وصاحبي في مجلس علمي بعد صلاة العشاء، بدأ المحاضر كلامه بهذه التوطئة، تابع حديثه:

– ولقد أكرم الله -عز وجل- نبيه – صلى الله عليه وسلم – في الدنيا والآخرة، وبيّن ذلك في كتابه، بأيات تتلى إلى يوم القيامة، منها قوله -سبحانه-: {ورفعنا لك ذكرك}، ومنها: {ولسوف يعطيك ربك فترضى}، ومنها في سورة الإسراء: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} (الإسراء:79)، وهذه الآية هي موضوع حديثنا الليلة، وبعد الانتهاء من المحاضرة التي استغرقت أربعين دقيقة تقريباً غادرت وصاحبي المجلس، ولم ننتظر طعام العشاء على أن نتوقف عند محل الفول الذي اعتدنا عليه لنأخذ عشاء خفيفا.

– أعجبني طرح الشيخ للموضوع ولاسيما تفصيل التفسير الذي أسمعه لأول مرة.

– نعم، لقد وفقه الله في محاضرته، ولنستذكر شيئا منها تثبيتا لما سمعناه: بداية النقاط التي ذكرها في هذه الآية اشتملت على مسائل: الأولى: قوله -تعالى-: {من الليل} (من) للتبعيض. والفاء في قوله: {فتجهد} ناسقة على مضمر، أي قم فتهجد. (به) أي بالقرآن، والتهجد من الجهود وهو من الأضداد. يقال: هجد: نام، وهجد: سهر، فالتهجد القيام إلى الصلاة من النوم؛ لأن المتهجد هو الذي يلقي الهجود الذي هو النوم عن نفسه ومثله قوله -تعالى-: {فظلتم تفكهون}، معناه تندمون، أي تطرحون الفاكهة عن أنفسكم، وهي انبساط النفوس وسرورها.

– الثانية: الخطاب للنبي – صلى الله عليه وسلم – ولأنه مغفور له، فهو إذا تطوع بما ليس بواجب عليه كان ذلك زيادة في الدرجات، وغيره من الأمة تطوعُهم كفاراتٌ وتداركٌ لخلل يقع في الفرض.

– الثالثة: قوله -تعالى-: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} اختُلِف في المقام المحمود على أربعة أقوال: الأول -وهو أصحها- الشفاعة للناس يوم القيامة، قاله حذيفة بن اليمان. وفي صحيح مسلم عن أنس قال حدثنا محمد – صلى الله عليه وسلم – قال: «إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض؛ فيأتون آدم فيقولون له اشفع لذريتك؛ فيقول لست لها ولكن عليكم بإبراهيم -عليه السلام-؛ فإنه خليل الله؛ فيأتون إبراهيم فيقول: لست لها ولكن عليكم بموسى؛ فإنه كليم الله فيؤتى موسى فيقول لست لها ولكن عليكم بعيسى -عليه السلام-؛ فإنه روح الله وكلمته فيؤتى عيسى فيقول لست لها ولكن عليكم بمحمد – صلى الله عليه وسلم – فأوتى فأقول أنا لها».

– القول الثاني: أن المقام المحمود إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة. قلت: وهذا القول لا تنافر بينه وبين الأول، فإنه يكون بيده لواء الحمد ويشفع. روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي آدم فمن سواه إلا تحت لوائي» صححه الألباني.

– الرابعة: اختلف العلماء في كون القيام بالليل للمقام المحمود على قولين: أحدهما: أن البارئ -تعالى- يجعل ما شاء من فعله سببا لفضله من غير معرفة بوجه الحكمة أو بمعرفة وجه الحكمة. الثاني: أن قيام الليل فيه الخلوة مع البارئ والمناجاة دون الناس، فأُعطيَ الخلوةَ به ومناجاتَه في قيامه وهو المقام المحمود، ويتفاضل فيه الخلق بحسب درجاتهم، فأجلُّهم فيه درجة محمد – صلى الله عليه وسلم -، فإنه يُعطى ما لا يُعطى أحد، ويشفع ما لا يشفع أحد. و(عسى) من الله -عز وجل- واجبة. ووصف المقام بالمحمود وصف مجازي، والمحمود من يقوم فيه، أي يحمد أثره فيه، وذلك لغنائه عن أصحاب ذلك المقام؛ ولذلك فُسر المقام المحمود بالشفاعة العظمى.

ومن إكرام الله لرسوله أيضا يوم القيامة مقام الوسيلة، وهي منزلة رفيعة عالية لا تنبغي إلا لعبد واحد، كما في الحديث: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، وسلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد واحد، وأرجو أن أكون أنا هو» رواه مسلم.

وهي له دون شك ولكن لا يجزم بذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – تأدبا مع الله -عز وجل-، وكذلك من إكرام الله لرسوله – صلى الله عليه وسلم – يوم القيامة أن يكون أول من يدخل الجنة كما في الحديث: عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: آتي يوم القيام باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك، وفي الحديث أيضا «حتى يأذن الله -عز وجل-، لمن شاء ويرضى، فإذا أراد الله -تبارك وتعالى- أن يصدع بين خلقه نادى مناد: أين أحمد وأمته؟ فنحن الآخرون الأولون، نحن آخر الأمم، وأول من يحاسب، فتفرج لنا الأمم عن طريقنا، فنمضي غرا محجلين من أثر الطهور، فتقول الأمم: كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها، فآتي باب الجنة، فآخذ بحلقة الباب، فأقرع الباب، فيقال: من أنت؟ فأقول: أنا محمد، فيفتح لي، فآتي ربي -عز وجل- على كرسيه -أو سريره شك حمّاد- فأَخِرُّ له ساجدا، فأحمده بمحامد لم يحمده بها أحد كان قبلي، وليس يحمده بها أحد بعدي، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وسل تعطه، وقل تسمع، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: أي رب، أمتي أمتي، فيقول: أخرج من كان في قلبه مثقال كذا وكذا -لم يحفظ حمَّاد، ثم أعود فأسجد فأقول: ما قلت: فيقال: ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: أي رب أمتي، أمتي، فيقول: أخرج من كان في قلبه مثقال كذا وكذا، دون الأول، ثم أعود، فأسجد، فأقول مثل ذلك، فيقال لي: ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: أي رب أمتي، أمتي؟ فقال: أخرج من كان في قلبه مثقال كذا وكذا، دون ذلك»، قال الشيخ شعيب الأرنؤوط: حسن لغيره.

عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «أنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر، ما من أحد إلا وهو تحت لوائي يوم القيامة ينتظر الفرج، وإن معي لواء الحمد، أنا أمشي ويمشي الناس معي حتى آتي باب الجنة فأستفتح فيقال: من هذا؟ فأقول: محمد، فيقال: مرحبا بمحمد، فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا أنظر إليه» صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.