مازلنا في الحديث عن الفرق بين الخوف والخشية، وهل المطلوب محبة الله أم خشيته سبحانه، وقلنا أن كلاهما يجب على العبد، وتوقفنا عند قول الله تعالى: {قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا} التسلل والانسلال: الخروج واللواذ من الملاوذة، وهي أن تستتر بشيء مخافة من يراك؛ فكان المنافقون يتسللون عن صلاة الجمعة.
      وقال الحسن: لواذا فرارا من الجهاد، قوله -تعالى-: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره}؛ بهذه الآية احتج الفقهاء على أن الأمر على الوجوب، ووجْهُهَا أن الله -تبارك وتعالى- قد حذر من مخالفة أمره، وتوعد بالعقاب عليها بقوله: {أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}؛ فتحرم مخالفته، بل يجب امتثال أمره، والفتنة هنا: القتل، قاله ابن عباس. وقال عطاء: الزلازل والأهوال، وقال جعفر بن محمد: سلطان جائر يسلط عليهم، وقيل: الطبع على القلوب بشؤم مخالفة الرسول.
     نهوا عن أن يدعوا الرسول عند مناداته كما يدعو بعضهم بعضا في اللفظ، أو في الهيئة؛ فأما في اللفظ؛ فبألا لا يقولوا: يا محمد، أو يا ابن عبدالله، أو يا ابن عبدالمطلب، ولكن يا رسول الله، أو يا نبي الله، أو بكنيته يا أبا القاسم، وأما في الهيئة؛ فبألا يدعوه من وراء الحجرات؛ لأن ذلك كله من الجلافة التي لا تليق بعظمة قدر الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فهذا أدب للمسلمين، وسد لأبواب الأذى عن المنافقين.
ولقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- يعرفون مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويجلونه ويعظمونه أكثر مما يعظم أتباع الملوك ملوكهم!
عن أنس قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه، وأطاف به أصحابه ما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل».
     وعندما نزل النبي صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب، كان في الأسفل، وأبو أيوب في العلو؛ فانتبه أبو أيوب ذات ليلة؛ فقال: «نمشي فوق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟»؛ فتحول أبو أيوب وأهله إلى جانب الدور الثاني إلى الجانب؛ فتحولوا فباتوا في جانب، فلما أصبحا ذكرا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: السفل أرفق بي الناس يأتون إلي، أستقبل الناس، السفل أرفق، أفضل؛ فقال أبو أيوب: لا أعلو سقيفة أنت تحتها، لا أعلو سقيفة أنت تحتها؛ فتحول أبو أيوب في السفل، والنبي صلى الله عليه وسلم في العلو؛ فكان يصنع طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيبعث إليه، فلما رد إليه، أي الطبق بعدما يأكل صلى الله عليه وسلم، سأل عن مواضع أصابع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيتبع أصابع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيأكل من حيث أثر أصابعه» (رواه أحمد ومسلم).
     جاء عروة قبل أن يسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية، وكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف ومعه المغفر، وكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ، ضرب يده بنصل السيف، لا تصل يد هذا الرجل الذي كان مشركا للحية النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم .
     ثم إن عروة جعل يرمق النبي صلى الله عليه وسلم بعينه، قال: فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا في كف رجل منهم؛ فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له، رأى عروة الصورة؛ فرجع إلى أصحابه المشركين؛ فقال: أي قومي، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا. يعني: لم أر ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا صلى الله عليه وسلم ، إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له. (رواه البخاري).