من ثوابت العقيدة الإسلامية أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أكمل البشر، وأعلم الخلق بالله وأتقاهم له، وخير مَنْ عَبَدَ الله -عز وجل-؛ فأكرمه الله في الدنيا، ورفع ذكره، وشرح صدره، وجعل له مقاما لم يجعله لغيره يوم القيامة، ومع ذلك كان يقول – صلى الله عليه وسلم -: «والله لا أدري -وأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم – ما يفعل بي ولا بكم» (البخاري) في قصة وفاة عثمان بن مظعون، وكل خاطرة أو فكرة تخالف ذلك، يجب تأوليها بما يتفق وهذه العقيدة.

كان يومنا الثالث في مصر، وبالتحديد في منطقة (رشدي) بالإسكندرية، وعدني صاحبي أن نأكل وجبة بحرية لن أنساها أبدا، مرافقنا كان السائق (محمود)، الذي أكد مقولة صاحبي.

-ومظاهر تكريم الله لرسوله – صلى الله عليه وسلم – في القرآن العظيم كثيرة، ذكرنا بعضها، ونكمل شيئا منها، يقول -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} (الأحزاب:45-46).

قوله -تعالى-: (شاهدا) قال سعيد عن قتادة: (شاهدا) على أمته بالتبليغ إليهم، وعلى سائر الأمم بتبليغ أنبيائهم، ونحو ذلك، و(مبشرا) معناه للمؤمنين برحمة الله وبالجنة، (ونذيرا) معناه للعصاة والمكذبين من النار وعذاب الخلد، (وداعيا إلى الله) الدعاء إلى الله هو تبليغ التوحيد والأخذ به، ومكافحة الكفرة، و(بإذنه) هنا معناه: بأمره إياك، وتقديره ذلك في وقته وأوانه، و(سراجا منيرا) هنا استعارة للنور الذي يتضمنه شرعه. (سراجا منيرا) قال: بالقرآن». وقال الزجاج: (وسراجا) أي وذا سراج منير، أي كتاب نير.

وأخرج أحمد، والبخاري، وغيرهما من عطاء بن يسار قال: لقيت عبدالله بن عمرو بن العاص؛ فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في التوراة، فقال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا}، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا تجزي بالسيئة السيئة، ولكن تعفو وتصفح» زاد أحمد «ولن يقبضه الله حتى يقيم الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله؛ فيفتح بها أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا».

ناداه بأوصاف أودعها -سبحانه- فيه للتنويه بشأنه، وزيادة رفعة مقداره وبين له أركان رسالته؛ فهذا الغرض هو وصف تعلقات رسالته بأحوال أمته وأحوال الأمم السالفة.

وذكر له هنا خمسة أوصاف هي: شاهد، ومبشر، ونذير، وداع إلى الله، وسراج منير؛ فهذه الأوصاف ينطوي إليها، وتنطوي على مجامع الرسالة المحمدية؛ فلذلك اقتصر عليها من بين أوصافه الكثيرة.

– والشاهد: المخبر عن حجة المدعي المحق ودفع دعوى المبطل؛ فالرسول – صلى الله عليه وسلم – شاهد بصحة ما هو صحيح من الشرائع وبقاء ما هو صالح للبقاء منها، ويشهد ببطلان ما ألصق بها، وبنسخ ما لا ينبغي بقاؤه من أحكامها بما أخبر عنهم في القرآن والسنة، قال -تعالى-: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (المائدة:48)، وفي حديث الحشر: «يسأل كل رسول هل بلغ؟ فيقول: نعم، فيقول الله: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته».

ومحمد – صلى الله عليه وسلم – شاهد أيضا على أمته بمراقبة جريهم على الشريعة في حياته وشاهد عليهم في عرصات القيامة، قال -تعالى-: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} (النساء:41)؛ فهو شاهد على المستجيبين لدعوته وعلى المعرضين عنها، وعلى من استجاب للدعوة ثم بدل.

فلا جرم كان وصف الشاهد أشمل هذه الأوصاف للرسول – صلى الله عليه وسلم – بوصف كونه رسولا لهذه الأمة، وبوصف كونه خاتما للشرائع، ومتمما لمراد الله من بعثة الرسل.

والمبشر: المخبر البشرى، والبشارة: هي الحادث المسر لمن يخبر به والوعد بالعطية، والنبي – صلى الله عليه وسلم – مبشر لأهل الإيمان والمطيعين بمراتب فوزهم.

وقدمت البشارة على النذارة؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – غلب عليه التبشير؛ لأنه رحمة للعالمين، ولكثرة عدد المؤمنين في أمته.

– والنذير: مشتق من الإنذار، وهو الإخبار بحلول حادث مسيء أو قرب حلوله، والنبي – صلى الله عليه وسلم – منذر للذين يخالفون عن دينه من كافرين به ومن أهل العصيان بمتفاوت مواخذتهم على عملهم.