الآيات المرموقة من أحوال الأرض صالحة للدلالة على تفرده -تعالى- بالإلهية في كيفية خلقها ودحوها للإنسان والحيوان، وكيف قسمت إلى سهول، وجبال، وبحار، ونظام إنباتها الزرع والشجر، وما يخرج من ذلك من منافع للناس؛ ولهذا حذف تقييد آيات بمتعلق ليعم كل ما تصلح الآيات التي في الأرض أن تدل عليه، وتقديم الخبر في قوله: وفي الأرض للاهتمام والتشويق إلى ذكر المبتدأ.

واللام في للموقنين معلق بآيات، وخصت الآيات بللموقنين؛ لأنهم الذين انتفعوا بدلالتها؛ فأكسبتهم الإيقان بوقع البعث، وأوثر وصف الموقنين هنا دون الذين أيقنوا لإفادة أنهم عرفوا بالإيقان، وهذا الوصف يقتضي مدحهم بثقوب الفهم؛ لأن الإيقان لا يكون إلا عن دليل ودلائل هذا الأمر نظرية، ومدحهم أيضاً بالإنصاف وترك المكابرة؛ لأن أكثر المنكرين للحق تحملهم المكابرة أو الحسد على إنكار حق من يتوجسون منه أن يقضي على منافعهم، وتقديم في الأرض على المبتدأ للاهتمام بالأرض باعتبارها آيات كثيرة.

{وفي أنفسكم أفلا تبصرون}(الذاريات: 21).

عطف على في الأرض(الذاريات: 20)؛ فالتقدير: {وفي أنفسكم آيات أفلا تبصرون}.

تفريعا على هذه الجملة المعطوفة؛ فيقدر الوقف على أنفسكم، وليس المجرور متعلقا بتبصرون متقدما عليه؛ لأن وجود الفاء مانع من ذلك؛ إذ يصير الكلام معطوفا بحرفين.

والخطاب موجه إلى المشركين، والاستفهام إنكاري، أنكر عليهم عدم الإبصار للآيات.

والإبصار مستعار للتدبر والتفكر، أي: كيف تتركون النظر في آيات كائنة في أنفسكم؟

وتقديم في أنفسكم على متعلقه للاهتمام بالنظر في خلق أنفسهم وللرعاية على الفاصلة.

والمعنى: ألا تتفكرون في خلق أنفسكم، كيف أنشأكم الله من ماء؟ وكيف خلقكم أطوارا؟ أليس كل طور هو إيجاد خلق لم يكن موجودا قبل؟

فالموجود في الصبي لم يكن موجودا فيه حين كان جنينا، والموجود في الكهل لم يكن فيه حين كان غلاما، وما هي عند التأمل إلا مخلوقات مستجدة، كانت معدومة؛ فكذلك إنهاء الخلق بعد الموت.

وهذا التكوين العجيب كما يدل على إمكان الإيجاد بعد الموت، يدل على تفرد مكونه -تعالى-؛ فإن بواطن أحوال الإنسان وظواهرها عجائب من الانتظام والتناسب، وأعجبها خلق العقل وحركاته، واستخراج المعاني، وخلق النطق والإلهام إلى اللغة وخلق الحواس، وحركة الدورة الدموية واتساق الأعضاء الرئيسة وتفاعلها، وتسوية المفاصل، والعضلات، والأعصاب، والشرايين، وحالها بين الارتخاء واليبس؛ فإنه إذا غلب عليها التيبس، جاء العجز، وإذا غلب الارتخاء، جاء الموت، والخطاب للذين خوطبوا بقوله أول السورة {إنما توعدون لصادق}(الذاريات: 5).

وفي الأرض آيات للموقنين، أي: دلائل واضحة، وعلامات ظاهرة من الجبال، والبر، والبحر، والأشجار، والأنهار، والثمار، وفيها آثار الهلاك للأمم الكافرة المكذبة لما جاءت به رسل الله ودعتهم إليه، وخص الموقنين بالله؛ لأنهم الذين يعترفون بذلك، ويتدبرون فيه فينتفعون به {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} أي: وفي أنفسكم آيات تدل على توحيد الله، وصدق ما جاءت به الرسل؛ فإن خلقهم نطفة ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظما إلى أن ينفخ فيه الروح، ثم تختلف بعد ذلك صورهم وألوانهم وطبائعهم وألسنتهم، ثم نقش خلقهم على هذه الصفة العجيبة الشأن، من لحم، ودم، وعظم وأعضاء، وحواس، ومجار، ومنافس، ومعنى {أفلا تبصرون} أفلا تنظرون بعين البصيرة؛ فتستدلون بذلك على الخالق الرزاق المتفرد بالألوهية، وأنه لا شريك له، ولا ضد ولا ند، وأن وعده الحق، وقوله الحق، وأن ما جاءت إليكم به رسله هو الحق الذي لا شك فيه، ولا شبهة تعتريه، وقيل: المراد بالأنفس الأرواح، أي: وفي نفوسكم التي بها حياتكم آيات.

– علق أبو خالد.

– سبحان الله، كل شيء محيط بالإنسان وداخله يدله على وحدانية الله -عز وجل- ونبهه الله إليه؛ فما عليه سوى أن يبصر من البصيرة، لا من مجرد النظر المادي الذي لا يرى سوى الظاهر ودون أن يعتبر بشيء من عجيب خلق الله.