{يؤمنون به}؛ لأنهم تيقنوا صدقه، بما لديهم من الموافقات، وبما عندهم من البشارات، وبما تميزوا به من معرفة الحسن والقبيح، والصدق والكذب.

{وَمِنْ هَؤُلَاءِ} الموجودون {مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} إيمانا عن بصيرة، لا عن رغبة ولارهبة. {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} الذين دأبهم الجحود للحق والعناد له، وهذا حصر لمن كفر به، أنه لا يكون من أحد قصده متابعة الحق، وإلا فكل من له قصد صحيح، فإنه لا بد أن يؤمن به؛ لما اشتمل عليه من البينات، لكل من له عقل، أو ألقى السمع وهو شهيد. ومما يدل على صحته، أنه جاء به هذا النبي الأمين، الذي عرف قومه صدقه وأمانته ومدخله ومخرجه وسائر أحواله، وهو لا يكتب بيده خطا، ولا يقرأ خطا مكتوبا، فإتيانه به في هذه الحال من أظهر البينات القاطعة، التي لا تقبل الارتياب أنه من عند اللّه العزيز الحميد؛ ولهذا قال: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو} أي: تقرأ {مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا} لو كنت بهذه الحال: {لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} فقالوا: تعلمه من الكتب السابقة، أو استنسخه منها، فأما وقد نزل على قلبك، كتابا جليلا، تحديت به الفصحاء والبلغاء، الأعداء الألداء أن يأتوا بمثله، أو بسورة من مثله فعجزوا غاية العجز، بل ولا حدثتهم أنفسهم بالمعارضة لعلمهم ببلاغته وفصاحته، وأن كلام أحد من البشر لا يبلغ أن يكون مجاريا له أو على منواله؛ ولهذا قال: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)}.

أي: {بل} هذا القرآن {آيات بينات} لا خفيات، {في صدور الذين أوتوا العلم} وهم سادة الخلق، وعقلاؤهم، وأولو الألباب والكمل منهم.

فإذا كان آيات بينات في صدور أمثال هؤلاء، كانوا حجة على غيرهم، وإنكار غيرهم لا يضر، ولا يكون ذلك إلا ظلما، ولهذا قال: {وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون}؛ لأنه لا يجحدها إلا جاهل تكلم بغير علم، ولم يقتد بأهل العلم، وهو متمكن من معرفته على حقيقته، وإما متجاهل عرف أنه حق فعانده، وعرف صدقه فخالفه.

وإنما قال: {فالذين آتيناهم الكتاب}، دون أن يقول: فأهل الكتاب؛ لأن في آتيناهم الكتاب تذكيرا لهم بأنهم أمناء عليه كما قال -تعالى-: {بما استحفظوا من كتاب الله} (المائدة:44).

وجيء بصيغة المضارع للدلالة على أنه سيقع في المستقبل أو للدلالة على تجدد إيمان هذا الفريق به، أي إيمان من آمن منهم مستمر يزداد عدد المؤمنين يوما فيوما.

والإشارة بـهؤلاء إلى أهل مكة بتنزيلهم منزلة الحاضرين عند نزول الآية؛ لأنهم حاضرون في الذهن بكثرة ممارسة أحوالهم وجدالهم. وهكذا اصطلاح القرآن؛ حيث يذكر هؤلاء دون سبق ما يصلح للإشارة إليه. والمعنى: ومن مشركي أهل مكة من يؤمن به، أي بأن القرآن منزل من الله، وهؤلاء هم الذين أسلموا والذين يسلمون من بعد، ومنهم من يؤمن به في باطنه ولا يظهر ذلك؛ عنادا وكبرا مثل الوليد بن المغيرة.

وقد أشار قوله -تعالى-: {وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون} إلى أن من هؤلاء الذين يؤمنون بالقرآن من أهل الكتاب وأهل مكة من يكتم إيمانه جحودا منهم لأجل تصلبهم في الكفر؛ فالتعريف في {الكافرون} للدلالة على معنى الكمال في الوصف المعرف، أي إلا المتوغلون في الكفر الراسخون فيه، ليظهر وجه الاختلاف بين (ما يجحد) وبين (الكافرون)؛ إذ لولا الدلالة على معنى الكمال لصار معنى الكلام: وما يجحد إلا الجاحدون.

وعبر عن الكتاب بالآيات؛ لأنه آيات دالة على أنه من عند الله بسبب إعجازه وتحديه وعجز المعاندين عن الإتيان بسورة مثله.

وهذا يتوجه ابتداء إلى المشركين؛ لأن جحودهم واقع، وفيه تهيئة لتوجهه إلى من عسى أن يجحد به من أهل الكتاب من دون أن يواجههم بأنهم كافرون؛ لأنه لم يعرف منهم ذلك الآن؛ فإن فعلوه فقد أوجبوا ذلك على أنفسهم.

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)} (لقمان}.

{وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار} أي غدار، ومن غدره، أنه عاهد ربه، لئن أنجيتنا من البحر وشدته، لنكونن من الشاكرين، فغدر ولم يف بذلك، {كفور} بنعم الله، فهل يليق بمن نجاهم الله من هذه الشدة، إلا القيام التام بشكر نعم الله؟!