– من الذين ينتفعون بآيات الله (أولو الألباب)، كما في قوله -تعالى-: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة: 190-191).

وكذلك من الذين ينتفعون بآيات الله (أولى النهى)، كما في قوله -تعالى-: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ}(طه: 53-54، وكذلك قوله -تعالى-: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَىٰ}(طه: 128).

وهذان الوصفان تمييز لمن يستعمل عقله للتفكر والانتفاع بآيات الله -عز وجل.

– وهناك مرادفات أخرى للعقل، وردت في كتاب الله، وهي: الحِجْر، كما في قوله -تعالى-: {هل في ذلك قسم لذي حجر} (الفجر)، والفؤاد ورد مفردا في خمسة مواضع، وجمعا في أحد عشر موضعاً {ما كذب الفؤاد ما رأى}(النجم: 11).

{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}(إبراهيم: 37).

والفؤاد أقرب إلى القلب منه إلى العقل.

– أظن أن النهى أو اللب أوالحجر أقرب إلى العقل من القلب والفؤاد، ولكن ما الفرق بين (أولى النهى) و(أولي الألباب)؟! كنت وصاحبي في مكتبة المسجد، نحاول إنزال المكتبة الشاملة على حاسوبه المحمول، حاولنا من الشبكة العنكبوتية ولم ننجح، ثم حاولنا من ذاكرة (فلاش) ولم ننجح أيضاً؛ لأننا لسنا من المتعمقين في استخدام هذه التقنيات، أخذنا نبحث في هواتفنا الذكية.

– إليك ما وجدت في الفرق بين (أولي الألباب) و(أولي النهى).

(أولي الألباب) هم أصحاب الاتجاه الفكري الذي يبحث في الأسباب، والمقدمات، والأصول، والبدايات، والمثيرات، والعلل.

ولاشك أن أصحاب التفكير القبلي هم من أصحاب الاستذكار والرجوع إلى مخازن الذاكرة، خلوصا إلى الأصول والأسباب والبدايات. وهو عين قوله -تعالى- في سورة البقرة، آية 269. أما عن (أولي النهى)؛ فالنهى جمع نُهْية؛ فهم أصحاب الاتجاه الفكري الذي يبحث في النهايات؛ من حيث النتائج والاستجابات والتأثيرات والعواقب.

سورة طه، آية 54.

{كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ}. سورة طه، آية 128.

{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَىٰ}.

فالتركيز قائم على النتيجة والعاقبة؛ حيثما يكون هنالك أولي النهى؛ فمن السبب إلى النتيجة، هناك ألباب إلى نهايات.

كلوا أيها الناس من طيب ما أخرجنا لكم بالغيث الذي أنزلناه من السماء إلى الأرض من ثمار ذلك وطعامه، وما هو من أقواتكم وغذائكم، وارعوا فيما هو أرزاق بهائمكم منه وأقواتها أنعامكم: {إن في ذلك لآيات}، يقول: إن فيما وصفت في هذه الآية من قدرة ربكم، وعظيم سلطانه لآيات، يعني لدلالات وعلامات تدل على وحدانية ربكم، وألا إله لكم غيره (لأولي النهى)، يعني أهل الحجى والعقول، والنهى: جمع نهية، كما الكشى: جمع كشية.

قال أبو جعفر : والكشى شحمة تكون في جوف الضب، شبيهة بالسرة، وخص -تعالى- ذكره بأن آيات أولي النهى؛ لأنهم أهل التفكر والاعتبار، وأهل التدبر والاتعاظ.

القول في تأويل قوله -تعالى-: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَىٰ}(طه: 128)؛ لأن قريشا كانت تتجر إلى الشام؛ فلذلك قال لهم: أفلم يحذرهم ما يرون من فعلنا بهم بكفرهم بنا نزول مثله لهم، وهم على مثل فعلهم مقيمون.

(لأولي النهى) يعني: لأهل الحجى والعقول، ومن ينهاه عقله وفهمه ودينه عن مواقعة ما يضره. {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَىٰ} أي: لذوي العقول الرزينة، والأفكار المستقيمة على فضل الله وإحسانه، ورحمته، وسعة جوده، وتمام عنايته، وعلى أنه الرب المعبود، المالك المحمود، الذي لا يستحق العبادة سواه، ولا الحمد والمدح والثناء، إلا من امتن بهذه النعم، وعلى أنه على كل شيء قدير.

ما كل أحد ينتفع بالآيات، إنما ينتفع بها أولو النهى، أي العقول السليمة، والفطر المستقيمة، والألباب التي تزجر أصحابها عما لا ينبغي، هذا تسلية للرسول، وتصبير له عن المبادرة إلى إهلاك المكذبين المعرضين، وأن كفرهم وتكذيبهم سبب صالح لحلول العذاب بهم، ولزومه لهم؛ لأن الله جعل العقوبات سببا وناشئا عن الذنوب، ملازما لها، وهؤلاء قد أتوا بالسبب، ولكن الذي أخره عنهم كلمة ربك المتضمنة لإمهالهم وتأخيرهم، وضرب الأجل المسمى؛ فالأجل المسمى ونفوذ كلمة الله، هو الذي أخر عنهم العقوبة إلى إبان وقتها، ولعلهم يراجعون أمر الله؛ فيتوب عليهم، ويرفع عنهم العقوبة إذا لم تحق عليهم الكلمة.

إن في ذلك لآيات لأولي النهى معترضة مؤكدة للاستدلال؛ فبعد أن أشير إلى ما في المخلوقات المذكورة آنفا من الدلالة على وجود الصانع ووحدانيته، والمنة بها على الإنسان لمن تأمل، جمعت في هذه الجملة، وصرح بها في جميعها من الآيات الكثيرة، وكل من الاعتراض والتوكيد، مقتض لفصل الجملة.

وتأكيد الخبر بحرف (إن) لتنزيل المخاطبين منزلة المنكرين؛ لأنهم لم ينظروا في دلالة تلك المخلوقات على وحدانية الله، وهم يحسبون أنفسهم من أولي النهى؛ فما كان عدم اهتدائهم بتلك الآيات، إلا لأنهم لم يعدوها آيات، لا جرم أن ذلك المذكور مشتمل على آيات جمة، يتفطن لها ذوو العقول بالتأمل والتفكر، وينتبهون لها بالتذكير. والنهى: اسم جمع نهية -بضم النون وسكون الهاء- أي العقل، سمي نهية؛ لأنه سبب انتهاء المتحلي به عن كثير من الأعمال المفسدة والمهلكة؛ ولذلك أيضاً سمي بالعقل وسمي بالحجر.

وجملة (إن في ذلك لآيات لأولي النهى) في موضع التعليل للإنكار والتعجب من حال غفلتهم عن هلاك تلك القرون؛ فحرف التأكيد للاهتمام بالخبر وللإيذان بالتعليل. والنهى -بضم النون والقصر جمع نهية -بضم النون وسكون الهاء- اسم العقل، وقد يستعمل النهى مفردا بمعنى العقل، وفي هذا تعريض بالذين لم يهتدوا بتلك الآيات بأنهم عديمو العقول، كقوله: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}(الفرقان: 44).

وأولو الألباب أهل العقول الكاملة؛ لأن لب الشيء هو خلاصته.