– أعرف أحد المواظبين على الصلاة لا يحمل محفظة نقوده معه أبدا، لم أره يتصدق على فقير قط، وأما الزكاة فلا يملك نصابها قط، وإذا رأى أحدا يتصدق، انتقده بأن من تصدقت عليه ربما لا يستحق الصدقة.

– إن الإنفاق في سبيل الله، والصدقة، وبذل المال فيما يرضي الله، يحتاج إلى مجموعة من العقائد وإلى مستوى رفيع من الإيمان، فقد وصف الرسول – صلى الله عليه وسلم – الصدقة فقال: «والصلاة نور والصدقة برهان، والصبر ضياء»، والشيطان يأتي ابن آدم ليصعِّب عليه هذه العبادة العظيمة، بأساليب لا حصر لها، حتى يمنع المؤمن من النفقة ثم الصدقة، ثم حتى الزكاة الواجبة.

كنت وصاحبي في حوار عن أسعار حملات الحج، وكيف أصبحت التكلفة باهظة لا يستطيع تحملها كثير من المسلمين، سألته:

– لو أراد أحدنا أن يسافر وزوجته، في رحلة اقتصادية إلى بلد رخيص نسبيا، فإنه سينفق ألف دينار وربما ألفا ونصفا، ويكون مرتاح البال أنه لم يسرف ولم يرهق ميزانيته، وهذا الإنفاق لا أجر عظيماً عليه، مع أنه ذهب في أسبوع واحد كحد أقصى، أما الذي ينفق لأداء الحج، أو الذي ينفق يريد وجه الله في أوجه الخير، من فك ضيق مسلم، أو تفريج كربة مهموم، أو قضاء دين معسر فهذا ادخر ما أنفق، بل واستثمره بنجاح ليوم أحوج ما يكون إليه؛ فإن الله جعل ثواب الحسنات، الحسنة بعشر أمثالها، عدا النفقة، فإن الحد الأدنى فيها الدينار بسبعمئة ضعف: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة:261)، ومعظم الأحيان يزيد عن هذا المقدار كما في حديث الصدقة المتفق عليه، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل»، ولا شك أن الجبل أكثر بكثير من سبعمئة تمرة، وفي رواية «حتى تكون مثل أحد»، وجبل أحد جبل عظيم كبير!

– أعتقد أن العبد يحتاج أن يربي نفسه على أمور تتعلق بالمال، حتى يتخلق بها، أولها: ألا يكون المال غاية، بل وسيلة، وألا يدخل المال القلب بل الجيب، وأن الصدقة لا تنقص المال وهذه قضية إيمانية، يجب أن يعتقدها العبد، «لا ينقص مال من صدقة» وهذه الحقيقة حلف عليها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الحديث عن عبدالرحمن بن عوف أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ثلاث والذي نفسي بيده إن كنت لحالفا عليهن: لا ينقص مال من صدقة فتصدقوا، ولا يعفو عبد عن مظلمة إلا زاده الله بها عزا يوم القيامة، ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر» صحيح لغيره.

بلغنا مقر الحملة لنسدد تكاليف حجتنا، لم نمكث أكثر من عشر دقائق، خرجنا نريد إدراك صلاة المغرب في مسجدنا.

– تابع حديثك يا أبا عبدالرحمن.

– إن أحاديث الصدقة ينبغي أن تكون دائما حاضرة في ذهن العبد وتصرفه، إذا أنفق دينارا واحدا فقط ينبغي أن يحتسبه، ويرجو الله أن يجد جزاءه يوم القيامة؛ فإن ثوابه عظيم، وإذا رأى مكروبا أو علم عن معسر ينبغي أن يسعى بصدق لإعانته، ويؤمن صادقا أن ماله هو الذي ينفقه في سبيل الله، أما الذي يبقى في الحساب فإنه مال ورثته وليس ماله، وهذه عقيدة أخرى.

– أحسنت يا أبا عبدالرحمن، وربما ينبغي على العبد أن يذكر نفسه أن المال مال الله، كما قال -عز وجل-: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} (النور:33)، وذلك في إعانة الرقيق للمكاتبة ونيل حريتهم، وذلك حتى لا يتعلق القلب ويتشرب بحب المال؛ فمن أحب الله أخلص في عبادته، ومن عبد غير الله ذل؛ ففي الحديث: «يقول ابن آدم مالي مالي وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس» رواه مسلم.

– المصيبة يا أخي، أن العبد إذا ترك لقلبه مسألة حب المال فإن هذا الخلق يزداد مع تقدم العمر، حتى يكون حقيقة عبدا للمال، يصبح المال مدار حياته، ومركز نشاطاته. وهذه هي التعاسة الحقة، «تعس عبد الدينار وعبدالدرهم»، رواه البخاري، حتى لو أراد أن يتصدق لن يستطيع، وربما لن يتمكن حتى من أداء فريضة الزكاة؛ لأنه إن فعل يشعر أنه يقتطع جزءا من قلبه؛ فقد ثبت في الحديث المتفق عليه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «تصدق وأنت صحيح، شحيح، تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان كذا».

وذلك أن المال عزيز، ولكن حبه لا ينبغي أن يتملك القلب، حتى يصعب على العبد أن يتصدق، وينفق في وجوه الخير.

– إن الشيطان لن يدع ابن آدم يأتي بهذه العبادة العظيمة ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ولكن المؤمن يعلم من أين يكسب المال؟ وأين ينفقه؟ ليبرهن على صدق إيمانه، كما قال – صلى الله عليه وسلم -: «والصدقة برهان».