في آيات كثيرة يخاطب الله -عز وجل- المشركين مقيما الحجة عليهم، ومبينا عجزهم وعجز آلهتهم، بأن هذه الآلهة لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا، فكيف ينفع غيرها؟ وأن هذه الآلهة لا تستطيع أن تدافع عن نفسها، فكيف تنضر غيرها؟ ولكن يبقى أهل الشرك على شركهم رغم علمهم بهذه الحقائق، ورغم عجزهم عن الإجابة عن هذه الحجج البينة!

يقول -عز وجل-:

{وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} (الفرقان:3).

ويقول -سبحانه-: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (الرعد:16).

وعندما جعل إبراهيم أصنامهم جذاذا:

{قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} (الشعراء).

ويقول -عز وجل-: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (المائدة:76).

قوله -تعالى-: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أمر الله -تعالى- نبيه – صلى الله عليه وسلم – أن يقول للمشركين: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ثم أمره أن يقول لهم: هو الله إلزاما للحجة إن لم يقولوا ذلك، وجهلوا من هو. {أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} هذا يدل على اعترافهم بأن الله هو الخالق وإلا لم يكن للاحتجاج بقوله: {أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} معنى، دليله قوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (الزمر:38) أي فإذا اعترفتهم فلم تعبدون غيره؟! وذلك الآخر لا ينفع ولا يضر، وهو إلزام صحيح.

لما نهضت الأدلة الصريحة بمظاهر الموجودات المتنوعة على انفراده بالإلهية من قوله: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ} (الرعد:3) وقوله: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى} (الرعد:8) وقوله: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} (الرعد:12) الآيات، إلى آخرها لا جرم أن تهيؤ المقام لتقرير المشركين تقريرا لا يجدون معه عن الإقرار مندوحة، ثم لتقريعهم على الإشراك تقريعا لا يسعهم إلا تجرع مرارته؛ لذلك استوقف الكلام وافتتح بالأمر بالقول تنويها بوضوح الحجة.

فالاستفهام {أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} تقرير وتوبيخ وتسفيه لرأيهم بناء على الإقرار المسلم. وفيه استدلال آخر على عدم أهلية أصنامهم للأهلية فإن اتخاذهم أولياء من دونه معلوم لا يحتاج إلى الاستفهام عنه.

وجملة {لا يملكون} صفة لـ{أولياء} والمقصود منها تنبيه السامعين للنظر في تلك الصفة فإنهم إن تدبروا علموها وعلموا أن من كانت تلك صفته فليس بأهل لأن يعبد.

ومعنى الملك هنا القدرة كما في قوله -تعالى-: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} في سورة العقود (المائدة:76).

وعطف الضر على النفع استقصاء في عجزهم؛ لأن شأن الضر أنه أقرب للاستطاعة وأسهل.

{أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (الرعد:16)، أم الانتقال في الاستفهام مقابل قوله: {أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} فالكلام بعد (أم) استفهام مستعمل في التهكم والتغليظ، فالمعنى: لو جعلوا لله شركاء يخلقون كما يخلق الله لكانت لهم شبهة في الاغترار واتخاذهم آلهة، أي فلا عذر لهم في عبادتهم، فجملة (خلقوا) صفة لـ(شركاء). وجملة (فتشابه) عطف على جملة (خلقوا كخلقه) فهي صفة ثانية لـ(شركاء)، والوصفان هما مصب التهكم والتغليظ.

وجملة {قل الله خالق كل شيء} فذلك لما تقدم ونتيجة له، فإنه لما جاء الاستفهام التوبيخي في {أفأتخذتم من دونه أولياء}؛ بحيث ينتج أن أولئك الذين اتخذوهم شركاء لله والذين تبين قصورهم عن أن يملكوا لأنفسهم نفعا أو ضرا، وأنهم لا يخلقون كخلق الله إنهم إلا مخلوقات لله -تعالى-، وأن الله خالق كل شيء، وما أولئك الأصنام إلا أشياء داخلة في عموم كل شيء، وأن الله هو المتوحد بالخلق، القهار لكل شيء دونه.

والقهر: الغلبة، وقدم عند قوله -تعالى-: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (الأنعام:18).