في آيات كثيرة من كتاب الله -عز وجل- يوبخ الله المشركين، ويقيم عليهم الحجة، ويخاطب عقولهم ويتحداهم، حتى لا يملك المنصف منهم إلا أن يرجع إلى الهدى ويترك الضلال، ولا يستمر في الشرك إلا معاند مكابر، يستحق العذاب الدائم.

بهذه المقدمة بدأ الشيخ شرحة لهذه الآيات من سورة الأعراف، وقد حرصنا على الحضور مبكرا؛ لأن العدد محدود، والمكان لا يتسع لأكثر من أربعين شخصا، والتزاما بالتباعد الجسدي الذي فرضته السلطات الصحية للسيطرة على انتشار فيروس كورونا.

تابع الشيخ حديثه.

-عز وجل- في سورة الأعراف: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ (192) وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ} (الأعراف). هذه الآيات لتوبيخ المشركين وإقامة الحجة عليهم، وقد خوطب بها النبي – صلى الله عليه وسلم – والمسلمون، للتعجب من عقول المشركين، وفيه تعريض بالرد عليهم؛ لأنه يبلغ مسامعهم، والاستفهام مستعمل في التعجب والإنكار. وصيغة المضارع في يشركون دالة على تجدد هذا الإشراك منهم، ونفي المضارع في قوله: ما لا يخلق للدلالة على تجدد نفي الخالقية عنهم.

فيعلم منه: أنهم لا يخلقون في الاستقبال، وأنهم ما خلقوا شيئا في الماضي؛ لأنه لو كان الخلق صفة ثابتة لهم لكان متقررا في الماضي والحال والاستقبال. وتقديم المفعول في {ولا أنفسهم ينصرون} للاهتمام بنفي هذا النصر عنهم؛ لأنه أدل على عجز تلك الآلهة لأن من يقصر في نصر غيره لا يقصر في نصر نفسه لو قدر. والمعنى: أن الأصنام لا ينصرون من يعبدونهم إذا احتاجوا لنصرهم ولا ينصرون أنفسهم إن رام أحد الاعتداء عليها.

والظاهر أن تخصيص النصر من بين الأعمال التي يتخيلون أن تقوم بها الأصنام مقصود منه تنبيه المشركين على انتفاء مقدرة الأصنام على نفعهم؛ إذ كان النصر أشد مرغوب لهم؛ لأن العرب كانوا أهل غارات وقتال وتراث، فالانتصار من أهم الأمور لديهم قال -تعالى-: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ} (يس:74-75).

يقول -جل ثناؤه لهؤلاء المشركين من عبدة الأوثان، موبخهم على عبادتهم ما لا يضرهم ولا ينفعهم من الأصنام-: {إن الذين تدعون} أيها المشركون، {من دون الله}، وتعبدونها، شركا منكم وكفرا بالله {عباد أمثالكم}، وحاجهم في عبادة الأصنام: هم أملاك لربكم، كما أنتم له مماليك، فإن كنتم صادقين أنها تضر وتنفع، وأنها تستوجب منكم العبادة لنفعها إياكم، فليستجيبوا لدعائكم إذا دعوتموهم، فإن لم يستجيبوا لكم؛ لأنها لا تسمع دعاءكم، فأيقنوا بأنها لا تنفع ولا تضر؛ لأن الضر والنفع إنما يكونان ممن إذا سُئل سمع مسألة سائله وأعطى وأفضل، ومن إذا شكي إليه من شيء سمع، فضر من استحق العقوبة، ونفع من لا يستوجب الضر. أي هي حجارة وخشب، فأنتم تعبدون ما أنتم أشرف منه، ثم وبخهم الله- تعالی- وسفه عقولهم فقال: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا}.

أي أنتم أفضل منهم فكيف تعبدونهم، والغرض بيان جهلهم، أي هي حجارة وخشب، فأنتم تعبدون ما أنتم أشرف منه.

والأظهر أن المراد بالدعوة المأمور بها الدعوة للنصر والنجدة، والأمر باللام في قوله: فليستجيبوا أمر تعجيز للأصنام، {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا}، تأكيد لما تضمنته الجملة قبلها من أمر التعجيز وثبوت العجز؛ لأنه إذا انتفت عن الأصنام أسباب الاستجابة تحقق عجزها عن الإجابة، ووصف الأرجل بـ(يمشون) والأيدي بـ(يبطشون) والأعين بـ(يبصرون) والآذان بـ(يسمعون) إما لزيادة تسجيل العجز عليهم فيما يحتاج إليه الناصر، وإما لأن بعض تلك الأصنام كانت مجعولة على صور الآدميين مثل هبل، وذي الكفين، وكعيب في صور الرجال، ومثل سواع كان على صورة امرأة، فإذا كان لأمثال أولئك صور أرجل وأيد وأعين وآذان، فإنها عديمة العمل الذي تختص به الجوارح، فلا يطمع طامع في نصرها، وخص الأرجل والأيدي والأعين والآذان؛ لأنها آلات العلم والسعي والدفع للنصر، ولهذا لم يذكر الألسن لما علمت من أن الاستجابة مراد بها النجدة والنصرة، ولم يكونوا يسألون عن سبب الاستنجاد، ولكنهم يسرعون إلى الالتحاق بالمستنجد.

وترتيب هذه الجوارح الأربع على حسب ما في الآية ملحوظ فيه أهميتها بحسب الغرض، الذي هو النصر والنجدة، فإن الرجلين تسرعان إلى الصريح قبل التأمل، واليدين تعملان عمل النصر وهو الطعن والضرب، وأما الأعين والآذان فإنهما وسيلتان لذلك كله فأخرا، وإنما قدم ذكر الأعين هنا على خلاف معتاد القرآن في تقديم السمع على البصر كما سبق في أول سورة البقرة؛ لأن الترتيب هنا كان بطريق الترفي. {قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون}. إذن من الله لرسوله بأن يتحداهم بأنهم إن استطاعوا استصرخوا أصنامهم لتتألب على الكيد للرسول – صلى الله عليه وسلم -، والمعنى ادعوا شركاءكم لينصروكم على فتستريحوا مني.

والأمر والنهي في قوله: كيدون فلا تنظرون للتعجيز.

وقوله: {فلا تنظرون} تفريع على الأمر بالكيد، أي فإذا تمكنتم من إضراري فأعجلوا ولا تؤجلوني.

وفي هذا التحدي تعريض بأنه سيبلغهم وينتصر عليهم ويستأصل آلهتهم، وقد تحداهم بأتم أحوال النصر وهي الاستنصار بأقدر الموجودات في اعتقادهم، وأن يكون الإضرار به خفيا، وألا يتلوّم له ولا ينتظر، فإذا لم يتمكنوا من ذلك كان انتفاؤه أدل على عجزهم وعجز آلهتهم.